الطبيعة كمرآة للروح في أشعار ماري أوليفر
الحضور الطاغي للطبيعة؛ الأشجار، الطيور، البحيرات، ضوء الصباح، العشب الرطب، أبرز ما تحمله تجربة الشاعرة الأميركية ماري أوليفر، التي كانت ترى في العالم الطبيعي بابًا إلى الإلهي، والمدهش أن روحانيتها ليست طقسية أو عقائدية، بل هي منفتحة وشخصية، تنبع من إحساس عميق بالدهشة والانتماء للعالم. الأمر الذي شكل لأوليفر مسارًا خاصًا، بعيدًا عن صخب المدارس الشعرية الكبرى، فكتبت شعرًا بسيطًا في لغته، لكنه شديد العمق في تأمله، متجذرًا في الطبيعة ومفتوحًا على الروح والميتافيزيقا.
في زمن تزدحم فيه القصائد بالتجريب اللغوي أو الانخراط في قضايا الصراع السياسي والهوياتي، تبدو تجربة أوليفر وكأنها تعود بنا إلى جوهر الشعر، إلى تلك اللحظة التأملية التي يلتقي فيها الإنسان بالعالم في أبسط صوره وأكثرها عمقًا. ومن ها فإن خصوصيتها لا تنبع فقط من موضوعاتها أو أسلوبها، بل من صدق التجربة نفسها. كتبت كما عاشت: في قرب من الطبيعة، في إنصات دائم للعالم، وفي سعي داخلي لفهم الذات عبر علاقتها بالأرض والضوء والحيوان والصمت. لقد جعلت من الشعر ممارسة روحية، ومن الحياة اليومية تأملاً شعريًا. ولهذا بقي شعرها قريبًا من القرّاء في كل مكان، لأنه يكلّم فينا إنسانًا يبحث عن البساطة، والعمق، والانتماء.
وتشكل المختارات "الخيال أفضل من آلة حادة" التي ترجمها وقدم لها عامر فردان والصادرة عن منشورات تكوين/ نبوءات، لوحة متكاملة عن تجربة أوليفر وتجليات الطبيعة والروحانية الصوفيه عليها، يقول فردان "لعل أهم شيئين سيحدثان مع ماري أوليفر في أوهايو، عيشها وسط الغابات التي ستقضي أغلب يومها بها، ومعايشتها الفظيعة لتجربة الاعتداء الجنسي عليها من قبل أبيها، وهي التجربة التي ستدفع يأوليفر إلى صوغ شكل كتابتها الشعرية. أما حياتها في بروفنستان فهي تجربة عيش مخلصة لتفاصيل هذا المكان بحيث سيشكل هذا المكان محور كتابتها الأدبية ومسرحا لكل الصور والأفكار والتأملات.
ويضيف "كانت أوليفر طوال حياتها زاهدة، مقدسة لخصوصيتها الاجتماعية، مقلة في الحضور الإعلامي، وكما قالت في إحدى مقابلاتها القليلة "أردت دائما أن أكون غير ملاحظة، أن أُترك وحيدة، بشكل ما نجحت في ذلك". وعندما سئلت عن شهرتها الطاغية، قالت "هذه هي الشخصية العامة، لكن أنا ينظر إليّ دائما على أني شخص منعزل". وفي هذا تضييف أيضا "إذا صادفني السباك الذي أعرفه وقال ما أخبار العمل؟ فهذا سهل، لكن إذا جاء سياح إلى بروفنستان وقالوا إنهم يودون دعوتي إلى الغداء لأنهم يحبونني، فهذا موضوع صعب تلبيته، لأنه يعني ترك غابتي ومكتبي".
ويوضح فردان أن أوليفر امرأة مشاءة وشاعرة مسبحة، تقول في إحدى قصائدها:
"ألست من المستيقظين مبكرا
ومن المشائين مسافات طويلة"
عاشت أوليفر كما تحب، وهذا الذي تحب، كررته يوميا، صيفا وشتاء، شابة وعجوزا. تستيقظ في الخامسة صباحا ثم تذهب إلى الغابة، تمشي إلى أن تتعب، تتوقف أحيانا، تتأمل طيرا أو شجرة أو محارة، تفعل هذا كل يوم طوال حياتها، ثم تكتب، في كراستها الصغيرة بقلمها الرصاص. تقول أوليفر "في مرة نسيت قلمي، وكان عليّ أن أكتب جملة شعرية، حزنت، وفي المرة المقبلة، جئت بعدد من أقلام الرصاص ووزعت كل قلم على إحدى الأشجار، بحيث إذا وافتني فكرة ما، يكون القلم متوفرا". بهذا الشكل الطفولي عاشت أوليفر، كل يوم مع حشرة وطير ووردة وصخرة وقطرة ندى، حرفيا، كانت تفعل هذا كل يوم، ولذا جاءت نصوصها مترجمة لهذه العناصر.
ويرى فردان أن إحدى أهم الأوصاف التي تطلق على أوليفر هي أنها "شاعرة يحبها الجمهور الذي لا يعرف الشعر، ويكرهها النقاد". فلا يخلو أي نقاش لشعر أوليفر ومسيرتها الإبداعية من التذكير بهذه المفارقة، وهي كيف لشاعرة كثيرا ما تم تجاهلها من قبل النقاد، وخاصة الطليعيين منهم والمنحازين إلى التجريب، أن تحظى بمقروئية عالية قل نظيرها في التاريخ الأمريكي، وربما إحدى أهم المعضلات التي واجهت النقاد فيما يتعلق بشعر أوليفر أنه برغم وجاهة اعتراضاتهم على شعرها، كونه شعرا مباشرا وسهلا ومكررا وتوجيهيا ولا يخلو من وعظ عال من التماسك والجزالة. وربما إحد الاتهامات التي نالتها أن قصائدها الإيمانية المتصوفة الامتنانية، أو الإيجابية بلغة الجيل المعاصر، جاءت ملبية للنزعات التي راجت في آخر ثلاثين عاما، وأعني ثقافة تطوير الذات والايجابية والطاقة الداخلية للإنسان وثقافة "أنت تستطيع وأنت محور الكون"، فكانت تلك القصائد وكأنها تعبير عن تلك الثقافة الرائجة بدلا من أن تكون صوتا لثقافة مضادة احتجاجية ومشاغبة.
ويشير إلى أن تلك الاتهامات تنطوي على ظلم لأوليفر، التي بدأت بكتابة قصائدها المتصوفة المتماهية مع الطبيعة، منذ الستينيات، أي قبل أن تنتشر ثقافة الايجابية وفي ذروة النزعات الاحتجاجية الثورية التي سادت أمريكا والعالم في عقدي الستينيات وأوائل السبعينيات. فمنذ ديوانها الأول الصادر عام 1965، وأوليفر تكتب تلك القصائد الأقرب إلى العرفانية، واستمرت تكتب بنفس الطريقة والثيمة حتى مماتها، فهل هذا وجه من وجوه القصور في مسيرتها الشعرية؟ لا أستطيع الحسم هنا، لأن في ذاكرتي من الأسماء التي كتبت بشكل واحد وبثيمة واحدة طوال حياتها، ليس عن عجز وقلة وعي بالتغيرات التي تطرأ على العالم، بل باقتناع تام بأن الإيمان واليقين، ليسا بالضرورة علامة على قلة وعي الشاعر بما يحدث في الحياة الفارة المتغيرة التي لا تثبت على حال، بل في أحايين كثيرة، هي طريقة الشاعر في مقاومة سوء الحياة وتعزيز القدرة على عيشها.
ويوضح فردان بناء على ما قرأه من تنظيرات أوليفر عن الشعر والأدب ومنها كتابها "دليل الشعر" 1994، "أستطيع القول إنها كانت واعية بما هو الشعر وكيف يكتب، وهي واعية بالشرط الإبداعي وكل تفاصيل الكتابة الإبداعية، وعليه فلم يكن غريبا أن تكون أوليفر محاضرة عن الشعر والكتابة الإبداعية في عدد من الجامعات والكليات الأمريكية. وبشأن أن شعرها يحتمل وجها واحدا للتفسير والتأويل، تقول أوليفر "على الشعر أن يكون واضحا، لا أحب الشعراء الذين يكتبون كدبكة الأقدام، كل ما هو غير ضروري، لا يجب أن يكون يكون في القصيدة". وبالفعل فإن قصائدها معروفة النتيجة ومعروف ماذا تريد أن تقول بها، وربما هذا ما جعل الجمهور يحب قصائدها. وربما من بين ما يميز قصائد أوليفر أنها التقاطية وومضية، تقول فيها ما تريد قوله من دون إطالة "نعم قصائدي قصيرة، مثل قصائد جلال الدين الرومي، هو أيضا يكتب نعم قصائد قصيرة نسبيا، تحاشيا للترهل والتزود غير الضروري.
ويقول "إحدى أهم المآخذ التي أخذها النقاد على ماري أوليفر، هي أن قصائدها احتفالية وامتنانية ويقينية، لا مكان فيها لقلقٍ وغموضٍ وظلٍّ وتورية، والشعر ليست وظيفته أن يطبطب ويُربّت على كتف الإنسان، بل أن يزلزل وعي الناس، وأن الشعر معنيٌّ بالسؤال لا الجواب، لكن تبقى تلك التحفظات الأفانغاردية برغم إغرائها، ليست محل إجماع، فأنا على المستوى الشخصي مثل آخرين كُثُر، وبرغم انحيازنا إلى التجريب والمشاغبة والكشف المتواصل عن آفاق جديدة للتعبير الشعري، فإننا كثيرًا ما نتوق إلى شعرٍ واضحٍ ومباشرٍ أحيانًا، وكثيرًا ما نتعب من السؤال، ونرغب ولو كذبًا، في سماع جواب ما، ولعل هذا ما يجعلنا نَحِنُّ أحيانًا إلى شعرٍ يُسمّي الأشياء بأسمائها ويقدم إجابة ما، سواء تلك الإجابة قالها شخصٌ كالنفري وابن الفارض والخيام، أم قالها شخص كألين غينسبيرغ أو مظفر النواب أو أمل دنقل".
ويلفت إلى أن لأوليفر آباء كثر في الشعر، ما انفكت تذكرهم في أكثر من مناسبة على رأسهم جلال الدين الرومي، إضافة إلى حافظ الشيرازي، وولت ويتمان، ورالف إيمرسون، ووليام بليك وآخرهم بيرسي شيلي، الذي قالت في إحدى نعم قصائدها إنها أسمت كلبها "بيرسي" باسمه، الذي كتبت عنه كثيرا، ومنها قصيدتان تضمنتهما هذه المختارات، وهما "ذلك أني سأفكر في كلبي بيرسي" و"أول مرة رجع فيها بيرسي".
نماذج
قصيدة حين يجئ الموت
حين يجئ الموت
كالدب الجائع في الخريف
حين يجئ الموت ويفرغ عملاته النقدية اللامعة من
محفظته ليشتريني، ويلغلق المحفظة
حين يجئ الموت
مثل الجدري
حين يجئ الموت
مثل جبل جليدي بين لوحي الكتفين
أريد أن أدلف إلى الباب ممتلئة بالفضول، متسائلة
كيف سيكون كوخ الظلام ذاك؟
لذلك، أعتبر كل الأشياء إخوة
وأن الوقت ليس أكثر من فكرة
وأعد الأبدية احتمالا آخر
وسأفكر في كل حياة كزهرة، مشاع مثل أقحوانة الحقل،
ومتفردة
وبكل اسم، كموسيقى مريحة في الفم
جائحة، كما تفعل كل موسيقى، نحو الصمت
وبكل جسد كأسد شجاعة
وشيء نفيس للأرض
وحين يقضى الأمر، أريد أن أقول: طوال حياتي
كنت عروس الدهشة
كنت العريس، آخذ العالم بين ذراعيّ
عندما يقضى الأمر
لا أريد أن أتساءل إن كنت قد جعلت من حياتي شيئا
محددا وحقيقيا
لا أريد أن أجد نفسي متأوهة وخائفة وممتلئة بالجدل
لا أريد أن أنتهي كوني مجرد زائرة لهذا العالم.
قصيدة الليل والنهر
قد رأيت القدم العظيمة تقفز في النهر.
ورأيت ضوء القمر، حليباً،
على طول الخطم الطويل.
ورأيت جسماً، محرفشاً ورائعاً
يسقط في النار المفاجئة لفمه
ولم أستطع أن أقول من منهما لاءمني أكثر
القوة أم اللاقوة
لا أحد منهما نالني كلياً
كنت منقسمة
مستهلكة
بالعاطفة، الشفقة، الإعجاب
وبعد حين انتهى كل شيء
السمكة اختفت
الدب مضي متثاقلاً إلى الشاطئ الأخضر ومنه إلى الأشجار
ثم لا يبقى هناك إلا هذه القصة
تتبعني إلى البيت ودخلته
ضيفاً صعباً
يهمهم بنبرة واحدة طوال النهار والليل
ببطء أو بسرعة لا فرق
فيبدو مثل نهر يقفز ويسقط
ويبدو مثل جسد يتداعى.