الغد الذي كان أمسًا

هل هناك أكثر واقعية من المثل الذي يقول “عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة،” فاليوم وهو الحاضر الذي كان في الأمس غدا حلمنا به وعملنا من أجل أن يكون حاضنة لمستقبل أفضل.

في مسرحيته "ماكبث"، يقول الشاعر الإنجليزي وليام شكسبير "غدا وغدا وغدا. وكل غد يزحف بهذه الخطى يوما إثر يوم. حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب".
وفي المسرحية نفسها يقول "ما الحياة إلا ظل يمشي. ممثل مسكين يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح ثم لا يسمعه أحد. إنها حكاية يحكيها معتوه ملؤها الصخب والعنف لا تعني أي شيء،" وهكذا يكون سيد المسرح العالمي دون منازع قد أفرغ الغد ومن خلاله الحياة من أي معنى.
وهو ما لا يتسق مع رغبة الإنسان في صناعة الأمل. وهي صناعة يبالغ البعض في ملئها بالأوهام حتى يتحول الأمل إلى ما يشبه البالون الذي إذا ما انفجر يُحدث ضجيجا غير أنه يتلاشى بعده. ذلك هو مصدر الخوف من الغد.
تقول أم كلثوم "أغدا ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غدي” وكانت قبل ربع قرن من ذلك أي في عام 1946 قد غنت متفائلة "حقابلو بكرا وبعد بكرا وبعد بعدو وأقولو بكرا،” تلك لغة متفائلة تجعل من الغد مجالا نفسيا مريحا.
يقول عبدالحليم حافظ "بكرا وبعدو بكرا وبعدو/ اللي وعدني حيوفي بوعدو/ كلها بكرا بس وبعدو،" وكعادته لا يتوقع فريد الأطرش أن تكون الأقدار لينة معه بحيث يطمئن لها. ويقول "قالت لي بكرا وادي احنا بكرا/ لو صدقت تبقى مش بايعاني/ لو خلفت تبقى مش ناسياني/ ح أقول بكرا هو اللي ما جاش/ وح استنى ليه ما استناش/ لحد بكرا،" واضح أن الشاعر يضحي بالزمن من أجل أن يكون للانتظار معنى.
وذلك ما لم يكن يراهن عليه محمد عبدالوهاب حين غنى “أمتى الزمان يسمح يا جميل،" وعلى الرغم من أن الشاعر طرفة بن العبد يقول “ما أقرب اليوم من غد" فإن الحكمة تقول "اليوم هو الغد الذي حلمت به أمس."
ويقول ناظم الغزالي "سلمت القلب بيدك/ طير وتاه عن وكره/ دعني من مواعيدك/ كل يوم وقلت بكره."
وفي مكان آخر تتبع اللبنانية صباح المثل القائل "لا تؤجل عمل اليوم إلى غد” فتقول بتفاؤل “بكرا بتشرق شمس العيد/ وبتبشر بنهار جديد/ عيش اليوم حب اليوم/ يوم بايدك بكرا بعيد."
وهل هناك أكثر واقعية من المثل الذي يقول "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة،” فاليوم وهو الحاضر الذي كان في الأمس غدا حلمنا به وعملنا من أجل أن يكون حاضنة لمستقبل أفضل.
أتذكر أن البشرية احتفلت بطريقة مجنونة بالألفية الثالثة من تاريخها الميلادي. وها نحن اليوم نكاد ننهي الربع الأول من القرن الأول من تلك الألفية. هل أصبحنا أفضل؟ أشك في ذلك. غدنا صار أمسا فيما لا يزال في إمكان أمسنا أن يكون غدا.