كيف تُعيد السعودية رسم الدور الإقليمي

ترك ترامب ملف العلاقة السعودية – الإسرائيلية ليُناقش في وقته المناسب، وكأنه يوجّه رسالة مباشرة لإسرائيل مفادها أن كفة الرياض كحليف إستراتيجي ثابت هي الأرجح.

حرب عام 1973 كانت أول انتصار عربي على إسرائيل، ما جعل الغرب يتجه نحو خلق صراعات جديدة لتخفيف الضغط المتزايد على إسرائيل، فجاء بالخميني عام 1979 لإشغال المنطقة بصراعات جديدة، بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد في 17 سبتمبر – أيلول 1978، التي أنهت حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، وتضمنت انسحاب إسرائيل من سيناء التي احتلتها عام 1967.
وبالفعل، انشغل العرب بمحاولة منع تصدير الثورة الخمينية إلى دولهم، ودخل العراق في حرب مباشرة استمرت ثماني سنوات، من سبتمبر/أيلول 1980 حتى أغسطس/آب 1988، انتهت دون تحقيق أيّ طرف للنصر، وقبِل الطرفان بوقف إطلاق النار. كانت تلك الحرب أطول نزاع عسكري بين دولتين في القرن العشرين، وسُمّيت بحرب الخليج الأولى، وقد أثّرت بشكل بالغ في المعادلات السياسية لمنطقة الشرق الأوسط، وشجعت إسرائيل على غزو جنوب لبنان عام 1982، في أعقاب سلسلة من الاشتباكات والهجمات المضادة بين منظمة التحرير الفلسطينية العاملة في جنوب لبنان وقوات الدفاع الإسرائيلية.
فرضت إسرائيل بشير الجميل، رئيس حزب الكتائب، رئيسا للبنان، في محاولة لدفع البلاد إلى توقيع معاهدة سلام معها، وإدخال لبنان إلى دائرة نفوذها. تقاسمت النفوذ في لبنان بعد الحرب الأهلية (1975 – 1990) مع سوريا التي احتلت لبنان حتى عام 2005، بينما بقيت إسرائيل تحتل جنوب لبنان حتى عام 2000.
بطبيعة الحال، تدهورت العلاقات السعودية – الإيرانية بعد الثورة الخمينية عام 1979، ومرّ الصراع بينهما بمراحل عدة، بدءا من المواجهة العلنية في الثمانينات، مرورا بانفراج قصير المدى في التسعينات، وصولا إلى التنافس على النفوذ الإقليمي في الشرق الأوسط. عزّز هذا التنافس احتلال الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وثورات “الربيع العربي” عام 2011؛ ومع سقوط بعض الأنظمة، سعت إيران إلى ملء الفراغ عبر دعم الجماعات المسلحة والميليشيات الموالية لها، ما أدّى إلى تعزيز نفوذها في مناطق مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن، مستثمرة الانقسامات الطائفية.
إلى جانب ذلك، عززت إيران علاقاتها مع قوى إقليمية مثل روسيا التي تتقاطع مصالحها معها، ما أسهم في تعزيز موقعها الإستراتيجي. ولهذا، سعت إيران إلى تصدير نموذجها مستخدمة “القوة الناعمة” من خلال دعم المؤسسات الإعلامية والثقافية الموالية لها، ما ساعد في تشكيل رأي عام مؤيد لسياساتها، وسط انقسام عربي واضح. واستغلت عدم الاستقرار والفراغ السياسي في المنطقة لتوسيع نفوذها وتعزيز موقعها كقوة إقليمية مؤثرة.
هذا بالطبع أثار قلق إسرائيل، لكنها كانت تعوّل كثيرا على الدور السعودي في الحرب بالوكالة ضد إيران لتقليص نفوذها. غير أن السعودية اختارت نهجا ناعما يحقق رؤيتها من دون الانخراط في صراعات بالوكالة.
ومثّلت الوساطة التي رعتها الصين بين السعودية وإيران صدمة للبيت الأبيض ولإسرائيل، إذ لم تعد السعودية تخوض حربا بالوكالة نيابة عن الغرب. وقد استثمرت الرياض توقيع تلك الاتفاقية في ظل علاقة فاترة مع واشنطن خلال ولاية الرئيس السابق جو بايدن، وكذلك في ظل علاقات مضطربة مع الصين وإيران، خصوصا بعد توقف مفاوضات فيينا بشأن الملف النووي الإيراني بين طهران والدول الست الكبرى.
وبعدما أشارت تقديرات أميركية إلى أن إيران كثّفت من وتيرة العمل على برنامجها النووي، أكّدت وكالة الطاقة الذرية في حينها العثور على جزيئات من اليورانيوم المخصّب بنسبة 83.7 في المئة، أي أقل بقليل من النسبة المطلوبة لإنتاج قنبلة نووية، وهي 90 في المئة. ويرى الكثير من المحللين أن تقاعس الولايات المتحدة في الرد على الهجوم الذي استهدف منشآت النفط في بقيق شرق السعودية كانت له عواقب وخيمة على أسواق الطاقة، وشكّل صدمة حقيقية للرياض، خصوصا بعد فشل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في تحقيق تقارب سعودي – إسرائيلي من خلال اتفاقات “أبراهام”، نتيجة اشتراط السعودية قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما قاد لاحقا إلى التقارب السعودي – الإيراني في مارس/اذار 2023، برعاية الصين.
جولة الرئيس دونالد ترامب في السعودية، في 13 مايو/أيار الماضي، كسرت قواعد الدبلوماسية الأميركية حين تجاهلت زيارة بريطانيا أو كندا، بل وتجاهلت زيارة إسرائيل، كما فعل خلال زيارته الأولى عام 2017. ترك ترامب حينها ملف العلاقة السعودية – الإسرائيلية ليُناقش في وقته المناسب، وكأنه يوجّه رسالة مباشرة لإسرائيل مفادها أن كفة السعودية كحليف إستراتيجي ثابت هي الأرجح.
تعكس هذه الزيارة ثقل السعودية والخليج في المنطقة، ولن تتمكن إسرائيل من منافسة السعودية في ملء الفراغ الإقليمي، حتى لو ساعدتها الولايات المتحدة في تحييد محور المقاومة. فقد جاء ذلك بعد أن عمدت السعودية إلى تحييد الصراع الإقليمي مع إيران، ولم تعد تخوض حربا نيابة عن أحد، بل حيّدت جبهة الحوثي في اليمن، وبقية الجبهات في العراق وغيرها.
السعودية اليوم تطالب لبنان واليمن بأداء دورهما الوطني، ولن تخوض حربا ضد “حزب الله” أو “الحوثي” نيابة عنهما. وفي الوقت ذاته، تضغط الرياض على إسرائيل لعقد مؤتمر دولي، بدعم أوروبي، من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وإنهاء الصراع في المنطقة، خصوصا بعد المساهمة في إنهاء الحرب الأهلية في سوريا، بالتعاون مع تركيا ومباركة أميركية. كما دعمت وحدة سوريا، وسعت إلى إقناع “قسد” وبقية الفصائل بتسليم أسلحتها للدولة والانخراط في وزارة الدفاع.
وهكذا، تحطّمت الطموحات الجيوسياسية الإقليمية على الصخرة السعودية، التي تقود، مع شقيقاتها في مجلس التعاون الخليجي، مشروعا اقتصاديا إقليميا – دوليا يربط آسيا بأوروبا. هو مشروع طموح تشارك فيه جميع الدول الإقليمية، بما فيها إسرائيل، إذا وافقت على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، من أجل تحويل المنطقة إلى “أوروبا جديدة”.