الجامعات الأميركية: غضب إنساني أم ثورة اجتماعية

التاريخ يخبرنا أن الجامعات لا تحرك الثورات العلمية فقط، بل قادرة على تغيير العالم.

البيت الأبيض لا يشعر بالقلق، كل شي في نطاق السيطرة. مظاهرات الطلبة مازالت في مسار آمن لا يهدد ثوابت النظام الأميركي طالما انحصر غضبها حد اللحظة على جريمة الإبادة التي يقودها اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو ضد الشعب الفلسطيني بغزة.

مظاهرات غضب لا تستثني إدارة الرئيس جو بايدين المتفاخر دوما بأنه صهيوني على ركاكة موقفه مما يجري من إبادة وخراب ودمار في غزة، وتماديه في إيصال آلة الموت إلى مجلس الحرب اليميني المتطرف في تل أبيب، ودعم قدرته الإقتصادية بحزمة مالية ثقيلة مستقطعة من ثروات الشعب الأميركي.

لن يبقى المسار آمنا على أركان النظام الأميركي إذا ما أخذت مظاهرات الطلبة المتسعة بمساحاتها الجغرافية إلى ولايات أبعد، منحى الانتقال من الغضب الإنساني إلى ثورة فكرية إجتماعية ضد جوهر فلسفة الحكم وآلياته التنفيذية.

التاريخ المعاصر مازال يفتح صفحاته على ثورة الطلبة في فرنسا مايو/أيار عام 1968 التي كادت تهد أركان النظام القائم آنداك، واضطر حينها الرئيس الراحل شارل ديغول إلى الهرب سرا إلى ألمانيا خوفا من التحول إلى حرب أهلية تحرق قصر الأليزيه بمن فيه.

مظاهرات طلابية بدأت شرارتها في مارس/آذار 1968 بالعاصمة باريس في شكل مسيرات تندد ببشاعة الحرب الأميركية في فيتنام، سرعان ما امتد تأثيرها إلى شرائح الشعب كافة لتبلغ ذروتها في مايو بانضمام نقابات الطبقة العاملة إليها حتى توقفت الحياة الدراسية والاقتصادية والسياسية معا على مدى أسابيع عدة.

ثورة الطلبة تلك تحولت من غضب شعبي ضد الحرب الأميركية في فيتنام، وانتهت بثورة ضد الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية والإمبريالية العالمية، وصفها الفيلسوف الفرنسي آلان باديو بـ "ثورة لتغيير العالم".

لا يبدو على إدارة البيت الأبيض القلق من مآلات تغيير مسار التظاهرات التي امتدت من لوس أنجلوس إلى نيويورك وأوستن وبوسطن وجورجيا وأوهايو وشيكاغو وأتلانتا وتكساس وصولا إلى واشنطن عاصمة العملاق الأميركي بارتقائها إلى مستوى ثورة شعبية تصل إلى مستوى الحد الأعلى في الإصرار على تغيير أشمل يمس جوانب الحياة كافة لا في أميركا فحسب بل في العالم أجمع.

ترى إدارة الرئيس جو بايدن أن مظاهرات الطلبة في معظم الجامعات الأميركية أمر طبيعي في إطار التقاليد الاجتماعية التي تحكم الحياة الأميركية صاحبة النموذج العالمي الأرقى في الديمقراطية بذروتها الليبرالية.

إطمئنان لا يوصف عبر عنه وزير الخارجية انتوني بلينكن لما يجري باعتباره من "السمات المميزة للديمقراطية في بلاده"، لكن لا أحد يعتقد أن هذا الاطمئنان لا يخفي قلقا غير معلن عنه على تعثر حظوظ فوز جو بايدن وحزبه في انتخابات رئاسية مرتقبة على الأقل رغم الحواجز والعراقيل التي نصبها في طريق منافسه الصبور المتماسك دونالد ترامب الذي أعلنها صراحة أن غريمه "بايدن لا يحب إسرائيل ولا يحب العرب" بدليل ما يجري من كوارث تهز الضمير الإنساني وكأنه ليس هنا!

حراك الطلبة أمر ينذر بالخطر، قد يجر قطاعات أوسع تنتظر لحظة فضح المسكوت عنه في زمن مضى، تستثمر شرارة غزة التي امتدت إلى أوروبا وأميركا اللاتينية في الإعلان عن ثورة فكرية أشمل، كما امتدت ثورة الطلبة في فرنسا حين انطلقت بـ"شرارة فيتنام" وتحولت إلى "ثورة اجتماعية" وفرضت على الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ إعلان ثورته الثقافية ضد من أسماهم فلول الرأسمالية واجتثاثهم في محاولة منه احتواء "الحركة الثورية لتغيير العالم" وإبداء التجاوب معها.

حراك الطلبة في أميركا، خطر مازال في نطاق السيطرة، طالما بقيت مخيمات المتظاهرين منتصبة داخل أسوار الجامعة تحركهم شرارة الغضب الإنساني، خالية من بوادر ثورة فكرية لم يلتحم بهم العمال والمفكرون والفلاسفة، كما التحم جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار بثورة الطلبة في فرنسا.