فؤاد شردودي يوغل في مفردات الشعر المفتوحة على الفن

الفنان التشكيلي المغربي يواصل في معرضه الحالي بالرباط الـ'تجوال' بالمعنى الشعري في آفاق الذات والعالم بصيغ تشكيلية مستجدة.
فؤاد شردودي: اللوحة التي لم تنجز بعد هي لوحتي
التشكيلي المغربي يحاول من خلال معرضه الخروج من مأزق المساحات الممتلئة إلى بلاغة جديدة

العلاقة الساحرة الغامضة بين الشعر والفنون التشكيلية تحمل العديد من الرمزية، فقد سال من أجلها الكثير من الحبر، وتعد العبارة المنسوبة إلى سيمونيدس (556 – 468 ق.م) "الشعر صورة ناطقة والرسم شعر صامت"، أقدم العبارات التي وصفت هذا التلازم بينهما.

والمتأمل في عمق لوحات الفنان التشكيلي المغربي فؤاد شردودي يمكنه أن يلامس خيطا رفيعا يصل الشاعر بالرسام، فهو يرسم لأنه شاعر ويكتب الشعر لأنه رسام، ففي اللوحة كما في القصيدة يسكنه الهاجس نفسه، إعادة بناء عالم خاص يحمل أسئلته الوجودية.

يحضر فؤاد الرسام في كل كتاب شعري جديد من بنات أفكاره.. ويدشن شردودي الشاعر كل معرض فني من توقيعه، حتى صار لقب "الشاعر الرسام" من السمات التي يوصف بها عند الحديث عنه، أو عند تناول مسيرته الفنية والشعرية على حد السواء.

وفي معرض فؤاد شردودي الحالي المقام برواق عبلة اعبابو بالرباط تحت عنوان "تجوال" (pérégrinations) والمتواصل إلى غاية السادس عشر من أبريل/نيسان المقبل، يحضر الشاعر الرسام، وعن ذلك يقول التشكيلي المغربي "منذ بداية المسيرة كان الرسام والشاعر متلازمان إن لم أقل متطابقان إلى درجة يصعب علي معها أن أفصل بينهما.. في اللوحة كما في القصيدة يسكنني الهاجس نفسه، إعادة بناء عالم خاص يحمل أسئلتي الوجودية ويتبع خطوات الدهشة التي لازمت عينا الطفل الذي كنته قبل عقود من الزمن".

ويضيف "صديقي الفنان الشاعر المغربي عزيز أزغاي يصف الموضوع كما لو أنه ينام على سرير بوسادتين، الكتابة والرسم، وفي كل مرة يتقلب على جانب، أما أنا فأصف الحالة بالطائر الذي يطير بجناحين، لا يمكنه الاستغناء عن أحدهما أو كليهما، وفي كل رحلة طيران ينخرط الجناحان معا".

ويتابع شردودي في حديثه لموقع "ميدل إيست أونلاين" "في اللوحة كما في الحياة يقودني ذلك الافتتان باللون وبالصورة، الصورة التي لا يفارقها البعد الشعري، لهذا فمعرضي الأخير أو بالأحرى كل معارضي، هي تنزيل لرؤية يتحاور ويتجاور فيها الشعري والتشكيلي".

ويلفت في "تجارب سابقة حاولت أن أستدعي إلى مرسمي تجارب شعرية كونية، فاشتغلت على نصوص شعراء حولتها إلى أعمال بصرية بروح الشاعر الرسام. وأجد حقيقة أن الشعر أكبر من مجرد كتابة، هو نص مفتوح على العالم، منصهر مع كل الفنون ويتدخل في تكوين جيناتها. لذا أعتقد أن كل مبدع هو شاعر بمعنى ما، والشعر حتما يوجد في تلك اللحظة الجمالية الباذخة التي يهبنا إياها الفن".

ولا يزال الشاعر الرسام يحلق في فضاء الكلمة المشكلة بفرشاته منذ المعرض الذي أقامه في العام 2001 في مسقط رأسه بمدينة سلا المغربية والذي عرض فيه أولى تجاربه، فهو "بعد ما يقارب ربع قرن في هذه الرحلة المجهولة" وفق تعبيره يؤكد "يمكنني القول بأن اللوحة التي أتمنى رسمها لم تتحقق بعد".

ويوضح "بدأت واقعيا ورسمت مشهديات كثيرة من اليومي، لكن ذاتي الإبداعية تمردت عن الواقع، أو بمعنى أصح، أعادت صناعة واقع جديد برؤية منسجمة مع أفقي الفكري والفلسفي، فكان التجريد الاتجاه الفني الذي أتاح لي إمكانية خلق الانزياح وصياغة المفارقات، فحاولت منذ البداية أن أجد أسلوبي الخاص، وبصمتي الخاصة".

فؤاد شردودي فنان يحتل مكانة مرموقة في المشهد التشكيلي المغربي، حيث أكد نفسه على امتداد نحو عقدين كأحد رموز الفن المغربي المعاصر، ومع ذلك يعمل باستمرار على تطوير تجاربه، فهو في بحث دائم عن بصمة خاصة تطبع لوحاته التي تكرس رؤاه وأفكاره الشعرية.

فلوحة شردودي يحصرها بعض النقاد في أربع مراحل مرت بها، بدأت باكتشاف الرسم والافتتان به والتجول في حدائق السريالية ثم التعبيرية، ويشير الفنان إلى أن "هذه المرحلة لم تدم طويلا لتسلمه إلى مرحلة تماهى فيها الخطاب التجريدي مع كاليغرافيا جديدة، بالإضافة إلى بحث في اللون وسياقاته اللامتناهية".

ويواصل "في مرحلة تالية كان اللقاء بالفنان الرائد فؤاد بلامين والاشتغال إلى جانبه مدة تزيد عن أربع سنوات، كانت بمثابة التكوين الحقيقي الذي شكل بالنسبة إلي أساسا نظريا وتطبيقيا لعدة مفاهيم ساهمت بشكل كبير في بلورة مشروعي البصري.. بعد هذه المرحلة تمكنت لوحتي من تكريس خطاب خاص، خطاب شكله أساسا مفهوم اللعب كما يراه غادامير، أساسه تلك الفوضى التي تخفي خلفها الكثير من النظام".

ويقول إن اللوحة كانت "في هذه التجربة تنقل الواقع بشكل استعاري، إذ حاولت فيها أن ألغي مركزية اللوحة لصالح مركزيات عدة داخل العمل نفسه، بحيث صار كل خط أو كتلة لونية أو شكل داخل اللوحة مركزا بحد ذاته".

ويكشف شردودي لموقع "ميدل إيست أونلاين" "في التجربة التي أعرضها الآن بالرباط محاولة للخروج من مأزق المساحات الممتلئة إلى بلاغة جديدة، يلعب فيها الضوء دورا كبيرا، حيث يفرض نفسه على شكل شفافيات تختزل كثيرا من الكتابة الصباغية، وحتى حين يسيطر الأسود في بعض الأعمال، فحضوره تلازمه حساسية شعرية تجعله أسودا مخادعا يخفي وراءه كتلا لونية ومساحات من الخطوط والأشكال".

ويخلص الفنان إلى أن معرض "تجوال" ما هو، إلا "تجوال بالمعنى الشعري في آفاق الذات والعالم بصيغ تشكيلية مستجدة فيها الكثير من التجريب إن على مستوى التقنيات، أو على مستوى المواد والخامات والإسناد".

وبالعودة إلى الوراء.. تحديدا إلى نهاية التسعينات، حيث انطلق الفنان ليحط بجناحيه ممثلين في الشعر والرسم في فضاءات المعارض، وكانت أولى هذه التجارب في العام 2001.

وعن هذه التجربة يقول الفنان "كنت متأثرا حينها بالمدرسة الواقعية كغيري من الشباب الذين تقودهم الموهبة والرغبة الجامحة في ملامسة سحر الرسم"، مضيفا "مع السنوات الأولى للألفية اكتشفت أن الخطاب التجريدي هو أفقي، ذلك لأن أسئلتي ورهاني الفني تجاوز الواقعي، وصرت أبحث عن أسلوب يتجاوب مع رؤيتي للوحة كصانعة للخطاب والمعنى، وليست مجرد ناقلة له".

مغامرة فؤاد شردودي "هكذا بدأت"، وفق تعبيره، متابعا "مع كثير من البحث المتواصل والرغبة المستمرة في التجاوز صارت اللوحة تستجيب بقدر مهم لتطلعات ذاتي المبدعة"، قائلا "في كل معرض كنت أبحث عن تجاوز ما أنجزت في السابق، لذلك كانت المغامرة ممتعة بشكل كبير".

ويصرح الفنان المغربي أن ما أذكى ذلك هو "زياراتي للمعارض والمتاحف الكبرى في العالم، وإنصاتي لما ينجز كونيا"، مؤكدا "لم أكن في يوم ما مطمئنا لما أنتج، كان يسكنني قلق في كل لحظة، وفي كل لوحة، ولربما هذا القلق هو ما قادني إلى اكتشاف جغرافيات بصرية جديدة، وأتاح لي فرصة التجريب المستمر".

ويضيف لموقع "ميدل إيست أونلاين" "بعد كل المعارض التي أنجزت لم أؤمن للحظة واحدة أنني قلت كلمتي كاملة، بمعنى أن اللوحة لا زالت تغريني بالمزيد من الغوص في عوالمها، اللوحة التي لم تنجز بعد هي لوحتي".

ويعتبر فؤاد شردودي أن معرضه "تجوال" المقام حاليا في رواق عبلة اعبابو بالرباط، هو محطة مهمة جدا في مسيرته، قائلا "لربما هي المحطة الأكثر تمثيلا لمشروع بصري أتمنى تكريس خطابه، مشروع لوحة كونية خالصة، تنتصر للإنساني المشترك، ولا تقف عند عتبات التلقي الأولى، بل تفتح أفق التأويل والقراءات المتعددة. وفي نظري لم تكن لهذه التجربة أن ترى النور إلا في رواق يحترم شروط تلقي العمل الفني ويتعامل بما يليق من الاحترافية والرقي".

ولا يكتمل الخطاب التشكيلي الذي يشتغل من خلاله شردودي إلا بفاعلية المتلقي وانخراطه في صناعة المعنى، لذلك فهو يتطلب إلى حد كبير – وفق قوله - قارئ من نوع خاص، قارئ يمتلك مفاتيح الدخول إلى النص البصري وتفكيكه ومناقشة أسئلته التي قد تسكن أحيانا في التفاصيل الصغيرة.

ويشرح "لذلك فعملية صياغة المعنى تظل نسبية في أغلب الأحيان، ولهذا أيضا لا أضع عناوين لأعمالي، بل أتركها مفتوحة على التأويل، العناوين في نظري تقيد أفق التلقي، بينما الحرية في التفاعل مع العمل الفني تجعل حياته أكثر رحابة وأعمق أثرا".

تحضر القيم اللونية في أعمال شردودي الفنية ضمن معرضه الذي يستضيفه رواق عبلة اعبابو بالرباط مشكلة معظم أجواء المعرض، ويوضح الفنان أن الأمر لا يعدو أن يكون تشكيلا من داخل الضوء، من داخل رؤية تمجد الضوء وتنتصر له، في المساحات البيضاء التي تخلق نوعا من التناغم الروحي والوجداني، وفي تقابلات لونية سلسة تضع العين فوق الغيمة لا تحتها، حتى في الأعمال التي يغلب عليها الأسود، فهناك دائما ضوء ينبعث من بين ثنايا اللوحة كما عبر عن ذلك العديد من زوار المعرض.

وأعرب شردودي عن سعادته بالانطباعات التي تركها معرضه على رواده، قائلا "كم كنت سعيدا وأنا أقرأ تعليق الشاعر المغربي الكبير حسن نجمي حين كتب على صفحته 'معرض جميل مضيء ومضاء. هناك أعمال رائعة وجديدة تماما من حيث التقنيات المُستَحدَثَة واستعمال الألوان. أحببتُ العملين كبيرَيْ الحجم اللذين داهمهما الأسود الفاتن العميق المضيء. أجل، المضيء. أظن أن هذا المعرض هو أهم معرض في مسار الفنان فؤاد شردودي الفني...هنيئا...'".

فؤاد شردودي إنه فنان يبحث في تشكيله عن الإمكانات القادرة على ترسيخ الحياة الشعرية الممزوجة بحب الرسم وكتابة أشعار برسالة تشكيلية ممتنة للريشة والألوان، فالشاعر الرسام الذي ينقل أحاسيسه عبر كلا الفنين المرهفين قادته موهبته للمشاركة في معارض فنية ولقاءات شعرية في مدن مغربية وعربية، وحتى العالمية، حيث سبق له أن نظم معرضا تشكيليا في باريس في العام 2016. وقد توج نشاطه الفني المستمر بالفوز بالجائزة الأولى لبينالي الفنانين العرب في الكويت في العام 2019.

شردودي في رحلة عمل دؤوبة لا تكاد تهدأ، فقبل أيام من انطلاق معرضه المستمر إلى غاية السادس عشر من أبريل/نيسان المقبل، شارك في أمسية شعرية من تنظيم جمعية إشعاع للثقافات والفنون بالعرائش، وخلالها تم عرض نماذج من أعماله التشكيلية جنبا إلى جنب مع قراءاته الشعرية.