أبورحمة: الاغتيالات تاريخ من الصراع المرير على السلطة

الباحث محمد أبورحمة يستعرض في كتابه الصراع السياسي على السلطة إبان عصر الخلافة الرشيدة والدولتين الأموية والعباسية، كما يرصد عمليات اغتيال سياسية تاريخية والصراعات التي مهدت لها متناولا فترة تاريخية تبدأ بولاية عثمان بن عفان وتنتهي بسقوط بغداد في أيدي التتار.

يستعرض الباحث محمد أبورحمة في كتابه "فتنة الخلافة.. تاريخ الاغتيالات السياسية والصراع على السلطة منذ عهد عثمان بن عفان حتى سقوط بغداد في أيدي التتار" مسألة الصراع السياسي على السلطة إبان عصر الخلافة الرشيدة والدولتين الأموية والعباسية، كما يرصد عمليات "اغتيال سياسي" تاريخية، فيسرد وقائعها ويعرض الدوافع التي أحاطت بها، والظروف والصراعات التي مهدت لها، متناولا فترة تارخية تبدأ بولاية عثمان بن عفان عام 24 هـ، وتنتهي بسقوط بغداد عاصمة الدولة العباسية في أيدي التتار عام 656 هـ.
يستهل أبورحمة كتابه الصادر عن دار سنابل بواقعة اغتيال عثمان بن عفان مؤكدا أن الاستهلال به لم يكن إهمالا لواقعة اغتيال عمر بن الخطاب أو التقليل من شأنها، وإنما رأينا في اغتيال عمر حدثا غير متصل بالأحداث التي تليه، ولم يترتب عليه سوى انتقال الخلافة إلى عثمان، أما اغتيال عثمان فكان حدثا هاما خطيرا لما كانت له من مقدمات وأباب وخلافات، ترتبت عليها نتاج كان لها أكبر الأثر على الأحداث التالية بل وعلى تاريخ المسلمين كله.
ويظل الموضوع الأساسي للكتاب هو الصراع على السلطة وما مهد لهذا أو نتج عن ذلك من اغتيال للخلفاء تحديدا، حيث تناول عمليات الاغتيال نفسها التي دبرها أو راح ضحيتها الحكام والساسة أو مناهضوهم ومعارضوهم. ويقول أبو رحمة "لما كان الاغتيال عبارة عن مقدمة وفي ذات الوقت نتيجة لصراع سياسي، متخذا صبغات دينية مختلفة ـ في بعض الأحوال ـ كان علينا البحث أيضا في جذور هذا الصراع وأصل الخلاف ـ فإذا ما فتشنا عن أصل الصراع السياسي، الذي ترتبت عليه هذه الاغتيالات فسوف نجد أن الكثير سوف يوافقون الشيخ البغدادي فيما ذهب إليه في كتابه "الفرق بين الفرق" أن نشأة هذا الخلاف كان على الإمامة ـ أي الخلافة ـ أي السلطة السياسية. فبعد أن يذكر البغدادي أول خلاف وقع بين المسلمين بأنه كان حول وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحول دفنه يقول "ثم اختلفوا بعد ذلك في الإمامة".
ويشير أبو رحمة إلى أن الخلاف لم ينشأ عن اختلاف رؤى سياسية بلورتها تجارب ونظريات، بل هو أقرب إلى خلاف وقع بالمصادفة، لم يتوقعه أحد ولم يستعد له أحد، فهو إذن خلاف فجرته المفاجأة، وهو إذن خلاف بعثته الحيرة، أما المفاجأة فكانت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك الرجل الاستثنائي، الذي كان أتباعه مجتمعين يرون في حركاته وسكناته وقوله وصمته حكمة منزهة عن أغراض البشر، وأمرا صادرا من أعلى عليين، هذا الرجل الذي صنع قواما متوحدا من قبائل شتى وشعوب مختلفة، لم تكن يوما كيانا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا واحدا، ولم تعرف نظاما لإدارة مثل هذه الأمور. فجأة يرحل الرجل الذي التف حوله الجميع مؤمنين به، مسلمين له قيادة أمورهم، وفجأة يبح مكانه شاغرا وهكذا أثارت المفاجأة ؤالا: منيخلف الرول لى الله عليه وسلم ومن يملأ الفراغ الذي تركه؟ وتضمن السؤال سؤالا آخر هو: كيف يتم اختيار هذا الرجل ـ الخليفة؟ وما هي المعايير التي ستحدد عملية الاختيار هذه؟
ويتابع "إنها الحيرة العظيمة التي وقع فيها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حين أفاقوا من دوار حزنهم لوفاة قائدهم، إنها حقا حيرة عظيمة أدت إلى الانشقاق الأول في صف المسلمين لنراهم ينقسمون إلى حزب المهاجرين وحزب الأنصار، يرى كلاهما أحقيته في الزعامة وخلافة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ما يؤكده الشيخ البغدادي فيقول "وأذعنت الأنصار إلى البيعة لسعد بن عبادة الخزرجي، وقالت قريش إن الإمامة لا تكون إلا في قريش". واجتمع الفريقان في سقيفة بني ساعدة، وأخذا يتشاوران في هذا الأمر، إلى أن قام عمر وقال للقوم "أيكم يطيب نفسا أن يخلف قدمين قدمهما النبي صلى الله عليه وسلم" ثم بايع أبا بكر، فبايع الناس بعده. وبالرغم من معارضة البعض بيعة أبي بكر وكان على رأسهم الزعيم الأنصاري سعد بن عبادة، إلا أن عمر ـ بنظره الثاقب ـ استطاع أن يسد باب الفتنة على عجل.
ويواصل أبورحمة بحثه وتحليله، فمن مبايعة أبوبكر إلى مبايعة عمر حيث انتقلت سلطة إدارة شؤون المسلمين مرتين إلى خليفتين للرسول صلى الله عليه وسلم إلى رجلين هما أقرب الصحابة إليه، رجلين لا يختلف أحد عليهما. فهل ارتضى المجتمع آنذاك ذلك الأسلوب في نقل السلطة؟ نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بالنفي ونحن مطمئنون، لأن المعايير التي تمت بها البيعة للخليفتين لم تستمر ولم تستقر، بل نزيد أن هذه المعايير كانت استثناء لم تتكرر، وكان أول المعارضين لهذا الاسلوب في اختيار الخليفة هو عمر بن الخطاب، الذي قال "لقد كانت بيعة أبي بكر فتنة وقى الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه فأيما رجل بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فأقتلوه" وهكذا نجد عمر بن الخطاب يتبع سبيلا آخر لنقل السلطة من بعده، فيقوم بترشيح ستة من الصحابة كي تختار الأمة من بينهم واحدا ليتولى أمرها".
ومن خلافة عمر إلى خلافة عثمان ثم علي وما جرى من اضطرابات أدت اغتيال الخليفتين عثمان وعلي وحدوث انقسامات وصراعات نتج عنها خروج أحزاب معارضة، ليأتي بعد ذلك معاوية بن أبي سفيان "بادئا صفحة جديدة من تاريخ الأمة، بانقلاب على كل أشكال البيعة في الفترة السابقة، مؤسسا مبدأ جديدا لنقل السلطة، واستمر بعده وظل قائما على مر عصور التاريخ الإسلامي، وفيما يبدو أن معاوية استعار من الحضارات المجاورة نظام "توريث السلطة" وانتقالها من الآباء إلى الأبناء تلقائيا، ولما كان معاوية أول الملوك فقد أخذ على عاتقه ترسيخ هذا النظام الجديد وتوطيد أركانه، وفي سبيل ذلك اتبع منهاجين، سار عليهما من جاء بعده: أولهما كان عمليا ومباشرا ويتلخص في فرض السلطة بقوة السلاح "السيف" والتلويح بهذه القوة لترويع الأمة وردع من تسول له نفسه بمعارضة الحاكم أو مناقشته. وثانيهما كان نظريا أو فكريا وقد اعتمد في ذلك على استخدام الحجة الدينية، وبالرغم من عداء العباسيين الدموي للأمويين، إلا أن خلفاء الدولة العباسية لم يجدوا غضاضة في إتباع نفس السبيلين، ففرضوا سلطانهم بالقوة، كما استخدموا أيضا الدين لكسب المشروعية لنظام حكمهم.
ويقارن أبو رحمة بين خلفاء الأمويين وخلفاء العباسيين كاشفا أقوالهم ومواقفهم وما ارتكبهم من جرائم مؤكدا استخدام السلطة للقوة في فرض سيطرتها وإرادتها وقمع معارضيها والتنكيل بهم، فمعاوية أول خلفاء بني أمية – يدرك أنه قد فرض سلطانه على  الناس بالقوة على الرغم  من كراهيتم لذلك، فيقول "فإني والله ما وليتها بمحبة منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفي هذا مجالدة"، أما ثاني الخلفاء العباسيين أبو جعفر المنصور فقد قال "إن من نازعنا هذا القميص أوطأناه ما في هذا الغمد، ومن نكث بيعتنا فقد أباح دمه لنا".
ويرصد أبورحمة بعد ذلك بالتفصيل من طالهم الاغتيال من خلفاء وملوك وسياسيين معارضين كاشفا حقيقة الصراع المرير على السلطة تحت أعين الناس وكذا توضيح بواعثه ونتائجه التي لم تكن في صالح الأمة بل أهدرت كرامتها أحيانا واستخف برأيها أحيانا كثيرة وفي كل الأحيان استغلت الأمة استغلالا ماديا ودينيا. فالتاريخ قديمه وحديثه يشهد أنه كان هناك ملك مستبد وأمير مستبد ورئيس مستبد وخليفة مستبد ـ فالمسألة لم تكن قط ولن تكون أبدا مسألة لقب يحمله الحاكم: خليفة أو أميرا أو رئيسا، إنما جوهر المسألة هو مصلحة أفراد الأمة الذين لابد أن يكون لهم حرية الاختيار أفضل أبنائها لينهض بمهمة العمل على صالحها وليس لصالح نفسه والمقربين منه فقط.