'أبيض وأسود' تأريخ سينمائي بشوائب اديولوجية

بغض النظر عن بعض الاحكام الانطباعية، الكتاب يقدم دراسة عن 18 فيلما راعى المؤلف في اختيارها ما تتضمنه من قيمة فكرية عالية وقدرة متميزة على التعبير الفني الدقيق عن موضوعها وعصرها كما راعى أن تقدم معا صورة متكاملة لواقع السينما المصرية خلال ثلاثين عاما.

القاهرة - من الكتب التي تركها لنا الناقد الراحل علي أبو شادي كتاب "أبيض وأسود" الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة المصرية ثم أعيدت طباعته أكثر من مرة. وكان الكتاب قد صدر في المرة الأولى في مناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية الأولى على ظهور الفن السينمائي.

ويضم الكتاب 18 دراسة عن 18 فيلما راعى أبو شادي في اختيارها ما تتضمنه من قيمة فكرية عالية وقدرة متميزة على التعبير الفني الدقيق عن موضوعها وعصرها، كما راعى أن تقدم معا صورة متكاملة لواقع السينما المصرية خلال ثلاثين عاما من 1939 الى 1969، أي منذ ظهور ما عرف بالمدرسة الواقعية في السينما المصرية، الى نهاية عصر التصوير بالأبيض والأسود.

تحت عنوان "سينما بربري مصر الوحيد" يبدأ الناقد كتابه بدراسة لفيلم من الأفلام الكلاسيكية القديمة هو فيلم "عثمان وعلي" الذي أخرجه توجو مزراحي واعتبر مع عدد آخر من الأفلام التي ظهرت في العام نفسه، بمثابة الاعلان الرسمي عن السينما الواقعية، في وقت سادت السينما المصرية فيه أُفلام من نوع الميلودراما والملهاة والأعمال التي تهدف الى التسلية المطلقة. ففي العام 1939 ظهر فيلم "العزيمة" لكمال سليم، وفيلم "لاشين" الذي أخرجه الألماني فريتز كرامب وفيلم "العودة الى الريف" أول أفلام المخرج أحمد كامل مرسي.

يقول أبو شادي إن توجو مزراحي كان من أنشط المخرجين في تلك الفترة، وقد أخرج وحده ثلاثة أفلام في عام 1939 من بينهما فيلمنا هذا الذي قام بدور البطولة فيه الممثل علي الكسار الذي اشتهر بأدائه دور النوبي، وعرف لدى الجمهور الشعبي بلقب "بربري مصر الوحيد" أو لعله هو الذي أطلق على نفسه في الواقع هذا اللقب الغريب!

كان مزراحي يمتلك استديو خاصا به في مدينة الاسكندرية، وقد أسسه بعد عودته من فرنسا التي حصل فيها على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد، لكنه انبهر هناك بعالم السينما وتعلم من خلال المشاهدة واشترى آلة تصوير سينمائي عاد بها الى مصر. وقد التحق مزراحي بالسينما المصرية وهو بعد في التاسعة والعشرين من عمره وصنع أول فيلم له عام 1930 هو فيلم "الكوكايين" الذي عرض في الاسكندرية باسم "الهاوية"، وكان الفيلم الروائي الطويل التاسع في تاريخ السينما المصرية.

وكان مزراحي هذا لا يكتفي فقط بإخراج الأُفلام، فلم تكن السينما قد عرفت بعد التخصصات الدقيقة المعروفة الآن، بل كان يكتب ويمثل ويخرج وينتج ويصمم المناظر ويقوم بالمونتاج ايضا. وخلال 16 سنة كان قد صنع 32 فيلما من كل الأنواع: الميلودراما والدراما الاجتماعية والأفلام الغنائية والتاريخية والكوميدية. ويعتبر مزراحي فنانا سينمائيا شاملا وواحدا من أوائل السينمائيين الذين ينطبق عليهم وصف "المخرج المؤلف" حسب التعبير الفرنسي الذي شاع فيما بعد لدى نقاد الموجة الجديدة في الخمسينات. فقد كان مسؤولا عن معظم المراحل الفنية لفيلمه كما أشرت، وكان يعبر في أفلامه عن رؤيته للعالم أيا كان رأينا فيها نحن.

كان مزراحي يهوديا، وكان أول من أدخل الشخصية اليهودية الى السينما المصرية وهي شخصية "شالوم" بائع اليانصيب في فيلم "المندوبان" عام 1934، ثم تكرر ظهورها فيما بعد في ثلاثة أفلام أخرى. ويقول المؤلف: رغم أن مزراحي كان على دراية كافية بالسينما العالمية في هذه الفترة، وهو الذي كان يتقن الفرنسية والايطالية وربما الانكليزية ايضا، ويعلم مدى ما وصلت اليه هذه السينما في مجال الكوميديا، الا أن معظم أعماله كانت تعتمد على أكبر كمية من المواقف الهازلة والنكات اللفظية التي تهدف الى اضحاك المتفرج بأي ثمن".

أما علي الكسار الذي كون مع مزراحي ثنائيا فنيا، فكان ممثلا مسرحيا مرموقا ودخل في منافسة شديدة مع نجيب الريحاني. وقد نقل شخصية عثمان عبد الباسط التي اشتهر بها في المسرح، الى السينما لكنه كان مختلفا عن الريحاني في كونه لم يكن يعرف الكتابة ولا القراءة، وقد عمل لفترة من حياته مساعد طباخ واختلط بالنوبيين واستمد منهم طريقته في الحديث باللهجة النوبية مضيفا الكثير من عنده بالطبع لكي يحقق التأثير الكوميدي.

ويعتبر فيلم "عثمان وعلي" نموذجا متكاملا لسينما علي الكسار، سينما المفارقات والمواقف الطريفة والمبالغات والاضحاك بالتعليق والنكتة وبالموقف والحركة. وفيه يقوم بدورين معا: عامل التليفونات الفقير، ومدير شركة القطن الثري. ويلعب السيناريو على التشابه الشديد بين الشخصيتين مفجرا الكثير من المواقف الضاحكة.

يقول أبوشادي "رغم بساطة القصة وسذاجتها فقد تناقلتها السينما المصرية بعد ذلك كثيرا بأساليب مختلفة، لكن مزراحي استطاع رغم ضعف امكانيات تلك الفترة، أن يقدم بعض الأفكار السينمائية الجديدة مثل استخدام الفلاش باك، أي أسلوب العودة الى الماضي (وكان من أوائل من استخدموا هذه التنمية في الفيلم المصري) وكذلك تقسيم الشاشة الى قسمين أو أكثر بدلا من استخدام المونتاج المتوازي حيث نشاهد ثلاثة أشخاص يتحدثون في أماكن مختلفة في نفس الوقت. كما نجح مزراحي في استخدام تقنيات خاصة في الانتقال من مشهد لآخر مثل المسح والاختفاء التدريجي والمزج، وصور ثلاثة مشاهد خارج الاستديو، كما استطاع التعبير عن شخصية بطله التي لاشك أن علي الكسار ساهم في كتابتها.

لا يمضي أبو شادي قدما ليدلل لنا على ما يقوله وكيف أن السينما المصرية تناولت نفس القصة في أفلام أخرة كثيرا فيما بعد، كما أنه يعتبر التقنيات التي كانت مألوفة في السينما الأميركية وقتذاك، "أفكارا" سينمائية جديدة.

فيلم "ليلى في الظلام" الذي انتجه واخرجه توجو مزراحي للمطربة ليلى مراد (وهو موضوع الفصل الثاني من الكتاب)، فهو أحد ثلاثة أفلام أخرجها مزراحي للمطربة نفسها. وقد عرض الفيلم عام 1944، ويصفه المؤلف بأنه واحد من الميلودرامات العنيفة التي سادت في تلك الفترة، وتدور أحداثه في عالم باشوات الأربعينات، ولا يظهر فيه الفقراء الا كأشرار متآمرين أو شحاذين متسولين. "عالم مخملي ترفرف على جوانبه السعادة ويقدم باشاواته في إطار انساني خلاب، فهم نبلاء وفرسان يتحلون بالخلق الرفيع ويؤثرون الفقراء على أنفسهم". ولا يكلف أبو شادي نفسه تحليل الفيلم من الناحية الفنية ورصد إشاراته وعلاماته التي ترتبط بالعصر بقدر ما يحاسبه (سياسيا) بمنطق النظرة الرسمية السائدة بعد 23 يوليو/حزيران 1952.

ويتخذ علي أبو شادي من فيلم "لست ملاكا"، سابع أفلام الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب، مدخلا لطرح قضايا عدة، أولها تاريخ السينما وكيف تعرض جزء كبير منه للضياع بسبب عدم الاهتمام بحفظ النسخ السلبية أو الايجابية من الأفلام القديمة حفظا سليما حسب الطرق العلمية الحديثة. وهو يقول إن هذا الفيلم الذي اخرجه محمد كريم شأن الأفلام الستة الأخرى التي قام ببطولتها عبد الوهاب، فقدت نسخته الأصلية السالبة وايضا الموجبة تماما، وكان الفنان الكبير قد قاد حملة واسعة للبحث عن نسخة مكتملة منه لأن النسخة التي طبعت عنها شرائط الفيديو المتوفرة، جاءت مشوهة وناقصة.

ويقول أبو شادي إن التسيب واللامبالاة والاهمال جعل مئات الأفلام تضيع وتندثر، ويطالب بوجود قانون يحمي الفيلم من الضياع ويلزم المنتج بإيداع نسخة الفيلم السلبية في أرشيف الفيلم القومي. وهي دعوة قائمة في الواقع منذ سنوات عديدة لكنها لم تطبق ولا نظن أنها قابلة للتطبيق على المدى القريب، بسبب غياب النظرة الجدية للسينما عموما لدى المشرعين الذين يضعون مشاريع القوانين، ولدى المسؤولين عموما في الدولة. وهي مفارقة حقيقية، فالدولة التي لا تكف عن التباهي بالدور الذي يلعبه الفيلم المصري في الخارج من دعم الثقافة المصرية، هي ذات الدولة التي لا تكلف نفسها مجرد التقدم بتوصيات الى الاتحاد الدولي للمنتجين لحماية المنتج السينمائي من الضياع.

والحقيقة أن أبو شادي تولى بعد ذلك الكثير من المناصب الحكومية البارزة، ومنها رئاسته للمركز القومي للسينما في مصر، إلى جانب مسؤوليات عديدة أخرى حتى أنه كان يعتبر لأكثر من 15 سنة، "وزير السينما" في مصر، دون أن يحقق مشروع السينماتيك المصرية أو دار المحفوظات أو يهتم بتطوير أرشيف السينما المصرية كما كان ينبغي. ولم يفعل من تولوا المسؤولية بعده شيئا لأجل هذه القضية المثارة منذ سنوات بعيدة.

القضية الثانية التي يثيرها أبو شادي هي المقولات الشائعة خطأ في تاريخ السينما المصرية بسبب الاعتماد على النقل الشفوي دون التدوين العلمي للأحداث والتطورات. فهو يقول إن بعض مرتزقة كتابة النقد والتاريخ يقولون إن شيخ المخرجين محمد كريم هو أول سينمائي مصري درس السينما في الخارج، لكنه في الحقيقة لم يدرسها دراسة علمية بل اطلع على النشاط السينمائي فترة اثناء اقامته في ألمانيا لمدة سنة. والخلاف ليس خطيرا كما يوحي الناقد الراحل.

أما الأمر الثالث فهو أن كريم قام بتصوير أغنية "عمري ما حنسى يوم الاثنين" التي يغنيها عبد الوهاب في فيلم "لست ملاكا" بالألوان في وقت لم تكن البلاد قد عرفت بعد معامل التلوين أو الأفلام الملونة، كما صور الأغنية الأخرى في نهاية الفيلم التي يشترك في غنائها عبد الوهاب ونور الهدى بالألوان ايضا. وكان ذلك عام 1946، لكن فُقد نيغاتيف (أو النسخة السلبية) الأجزاء الملونة من الفيلم بعد أن تمت تصفية المعمل الذي حمضت به في لندن وبيعت كل محتوياته في المزاد العلني.

ويخصص المؤلف فصلا لتناول وقائع فيلم "بابا أمين" وهو الفيلم الأول للمخرج يوسف شاهين، أخرجه عام 1951. ويستعرض المؤلف الظروف السائدة في السينما المصرية وقت عودة يوسف شاهين من الدراسة في الولايات المتحدة عام 1948، مركز كثيرا على الظرف السياسي، شأنه في معظم ما يكتب، ناسبا الى شاهين الحس الفني الراقي المبكر والرغبة الشابة في التغيير وإن لم تسمح الظروف له بذلك، فقد رفض المنتجون سيناريو فيلم "ابن النيل" الذي اقتبسه شاهين عن فيلم أميركي، ثم طلبوا منه موضوعا آخر كتبه بالاشتراك مع حسن حلمي المهندس الذي عينوه ايضا مشرفا على اخراج الفيلم.

ويؤكد أبو شادي أن شاهين كان يرفض السينما السائدة بتقاليدها وأخلاقياتها، وهو رأي لا نتفق معه، فقد كان شاهين لسنوات تالية جزءا من تلك السينما السائدة الى ما بعد حرب 67 عندما بدأ يعي ويدرك أشياء كثيرة في المجتمع لم يكن يراها في مراحله الأولى. ورغم المبالغات العديدة التي ترد في هذا الفصل عن عبقرية شاهين المبكرة الا أن الحكم النهائي للناقد على فيلم "بابا أمين" يتناقض مع تلك المبالغات عندما يقول إن نهاية الفيلم هي النهاية السائدة في الأفلام التقليدية المصرية.

القناعات السياسية للمؤلف تفرض نفسها على الكثير من صفحات الكتاب وتكاد تطغى في الكثير من الأحيان على المساحة المخصصة للنقد السينمائي أو تجعل ذلك النقد يخضع خضوعا آليا لمنطق التقلبات السياسية الخاصة بمرحلة واحدة هي المرحلة الناصرية سلبا أو ايجابا. وهو الأمر الذي يصبح أكثر بروزا في الفصل الذي يتناول فيلم "ابن النيل" لشاهين، ثم فيلم "جميلة" عن نضال الشعب الجزائري من أجل الاستقلال.

وفي تناوله لفيلم "ميرامار" لكمال الشيخ مثلا، يقول أبو شادي: لقد جاءت رؤية صانعي الفيلم مناقضة تماما لرؤية نجيب محفوظ، وقد استغلت مناخ ما بعد الهزيمة وظهور نوع من النقد الذاتي للتجربة الثورية، لتلقي بكل أحقادها دفعة واحدة، مزيفة رؤية الكاتب الكبير، متبنية رؤية طلبه مرزوق تجاه الثورة أو بمعنى أدق مختفية وراء طلبه مرزوق، لتنتقد الثورة وتبحث عن سلبياتها، مركزة عليها في تكثيف مريب، وهو ما استكمله ممدوح الليثي (كاتب السيناريو) عبر مخرجين آخرين".

ويصل الى الحكم على الفيلم فيقول ان "ميرامار يظل واحدا من أسوأ الأفلام التي دعت إلى السينما المضادة للجماهير، والتي جعلت من الثورة هدفا لسهامها السامة، وكانت تمهيدا لرياح هبوب اقتلعت الكثير من أحلام البسطاء في حياة أفضل.. ضاعت في عقد السبعينات"!

هذا النوع من الأحكام "الأيديولوجية" المطلقة التي تضع أفلاما في خانة "العداء للجماهير الكادحة" وما الى ذلك، يقلل كثيرا من قيمة كتاب يزعم صاحبه أنه "يؤرخ" لجزء مهم من تاريخ السينما لمصرية، كما يلقي بالشكوك على بعض ما يصدره الناقد من أحكام بل وعلى اختياراته التي لا تضع المعايير الفنية في المقدمة بل تغلب المعايير الأخلاقية والسياسية التي يدور حولها الكثير من الخلافات بالطبع. ومع ذلك فقيمته تكمن تحديدا من كونه يعبر أفضل ما يكون عن فكر مؤلفه في المرحلة التي