أحد أعمدة علم الآثار في العراق يتداعى برحيل الحمداني

الوزير السابق الدكتور عبدالأمير غالب الحمداني يرحل عن عالمنا إثر مرض عضال لم يمهله طويلاً عن عمر ناهز الخامسة والخمسين عاماً وهو لما يزل في عنفوان شبابه وعطائه الوفير.
كان عنواناً ومثالاً ناصعاً لوزير ثقافة عراقي أصيل بما شكله من مغايرة لسابقيه ولاحقيه

متوالية الخسارات الفادحة والموجعة لكبار مبدعينا وعلمائنا الأصلاء تتواصل في عراقنا الجريح، وتتساقط أوراق شجرة الإبداع الذهبية التي غاصت جذورها في عمق الحضارات الإنسانية الرائدة التي كان العراقيون بناتها الأوائل الذين أوقدوا شعلة الإبداع بتمظهراتها المتنوعة التي علمت الإنسانية أبجدية العلم والنور والمعرفة.. حيث كان للرعيل الأول من علماء العراق الآثاريين وتلامذتهم المتمرسين فضل البحث والتنقيب عن هذه المآثر والكنوز الآثارية الفريدة والنادرة، مستفيدين من أسس وعلوم البحث والتنقيب التي كانت تقوم بها الفرق الأجنبية على امتداد العراق والعالم، فضلاً عن دراستهم الأكاديمية في أرقى الجامعات العالمية..

وكان الدكتور عبدالأمير غالب الحمداني العالم الآثاري الكبير والمثقف المبدع واحداً من هؤلاء الأفذاذ الذين قدموا عصارة علمهم ومواصلة الجهود لنفض الغبار عن الكنوز الأثرية لحضارات العراق القديمة التي تطفو عليها بلاد الرافدين، التي ربما كانت اللبنات الاولى لكل حضارة مجيدة في العالم في ظل إهمال وعدم معرفة كثير من المسؤولين الذين تعاقبوا على سدة الحكم في العراق الذين لاهم لهم سوى البحث عن المجد والشهرة بعيداً عن الهوية الوطنية العراقية الأصيلة التي كانت ومازالت عنواناً مشعاً على امتداد تاريخ البشرية جمعاء..

لقد خسرت الثقافة العراقية الدكتور عبدالأمير غالب الحمداني المولود في قضاء الفهود بمحافظة ذي قار التي كانت مهد أولى الحضارات الإنسانية حيث رأى النور عام 1967 لتكتحل عيونه بآثار أجداده السومريين ويرحل عن عالمنا إثر مرض عضال لم يمهله طويلا عن عمر ناهز الخامسة والخمسين عاماً وهو لما يزل في عنفوان شبابه وعطائه الوفير في التاسع والعشرين من نيسان 2022.

السفر الإبداعي للحمداني تكلل بتقليده منصب وزير الثقافة والسياحة والآثار في 18 كانون الثاني /ديسمبر 2018، ليكرس تقاليد جديدة تميزت بالبساطة والتواضع والحلم والحكمة، فكان مركز استقطاب لكل مثقفي وفناني العراق بعيداً عن المحسوبية والمنسوبية، محافظاً على عفة اليد واللسان وراعياً للإبداع والمبدعين في مختلف مجالات المعرفة والثقافة والفنون فأحبه الجميع دون استثناء لأنهم وجدوه قريباً منهم، ليكون عنواناً ومثالاً ناصعاً لوزير ثقافة عراقي أصيل بما شكله من مغايرة وتجاوزاً لكل أساليب وسياسات وزراء الثقافة الذين سبقوه أو لحقوه، لاسيما على صعيد الابتعاد عن ممارسة الاجراءات الإدارية الروتينية والبيروقراطية والشخصنة والادعاءات والجعجعة الفارغة، فضلاً عن تلبية ومعالجة مختلف الطلبات المقدمة له وممارسة صلاحياته خدمة وتفعيلاً للحراك الثقافي المطلوب..

تدرج الدكتور عبدالأمير الحمداني في حقول الدراسة والبحث والمعرفة وفق أسس ومنهجيات رصينة بعيدة عن التحريف والتدليس والتزوير كشفت عن شغفه بحضارات العراق والتخصص في البحث والدراسة الأكاديمية ومعطياتها الثرة، فعلى صعيد التحصيل العلمي حصل في العام 1987 على شهادة بكالوريوس آثار قديمة من قسم الآثار في جامعة بغداد، وكان عنوان الرسالة "العلاقات الإقتصادية والسياسية والمكانية بين القرى والمدن في بلاد سومر في بداية الألف الثاني قبل الميلاد"، وأعقبها بالحصول على شهادة ماجستير في علوم الآثار والأنثروبولوجيا من جامعة ولاية نيويورك في ستوني بروك الأمريكية في العام 2013، ونال شهادة الدكتوراه في نفس الاختصاص والجامعة في عام 2015 وكان عنوان الأطروحة "دول الظل- آثار السلالات الحاكمة في أهوار جنوبي بلاد الرافدين". ودرَّس في الجامعة المذكورة كجزء من متطلبات الحصول على الدكتوراه، الحضارات المقارنة، والعلوم والتكنولوجيا في المجتمعات القديمة، والثورة الزراعية، وحماية وحفظ التراث العالمي، واللغة العربية.

الكارثة
ساهم في مراجعة 'الكارثة نهب آثار العراق وتدميرها'

عين سنة 2001 منقباً للآثار في الهيئة العامة للآثار والتراث، ومن ثم أصبح مدير آثار محافظة ذي قار للمدة من 2003 ولغاية 2010، حيث ترأس فريقاً للقيام بمسح وتوثيق المواقع الأثرية منذ سنة 2003 ولغاية سنة 2010 وتمكّن من زيارة وتوثيق ما مجموعه 1200 تل أثري في محافظة ذي قار وأجزاء من المحافظات المجاورة، وشملت مناطق لم يتم مسحها سابقاً مثل مناطق الأهوار الجنوبية والبادية الغربية ومناطق شرق نهر الغرّاف، وأجرى تنقيبات في عدد من المواقع الأثرية مع البعثات الوطنية والدولية التي عملت في العراق بعد 2003. وكان زميلاً للعديد من المؤسسات والمراكز البحثية والأكاديمية العالمية منها: صندوق التراث العالمي، المركز الدولي لصيانة الممتلكات الثقافية، المؤتمر الدولي للآثار، المجلس الدولي للمتاحف، المجلس الأميركي لمراكز بحوث ما وراء البحار، المعهد الأميركي للدراسات الأكاديمية في العراق، مؤسسة التراث العراقي، ومؤسسة أصوات من أجل العراق. وكان مديراً لمتحف الناصرية ومديراً للآثار في محافظة ذي قار من 2003 إلى 2009، وفي عام 2007 عمل محاضراً في جامعة ذي قار.

ولروحه الوطنية الوثابة وحبه لبلده وآثاره العظيمة ساهم ،خلال وبعد الغزو الأميركي للعراق، في تأمين الحماية للمواقع الأثرية في محافظة ذي قار من خلال تشكيل قوة عراقية خاصة وتسيير دوريات الحماية اليومية للمواقع المستهدفة من أجل إيقاف النهب، وأعاد للمتحف العراقي حوالي 30 ألف قطعة أثرية مسروقة أو معدة للتهريب من المواقع الأثرية، ناهيك عن محاربته المباشرة لسراق الآثار على تخوم المواقع الأثرية في الناصرية وحرصه على ايقاف الهدر من اللقى والرقُم التي باتت تباع في الشوارع آنذاك، وقام للمدة من 2012 ولغاية 2015 بإعداد قاعدة بيانات وأطلس رقمي للمواقع الأثرية في العراق باستخدام خرائط ومسوحات سابقة وصور جوية عالية الدقة.

 الحمداني
الكتاب الذي استذكره صديقه أمير دوشي قبل رحيل الحمداني

ولم يتوقف عطاؤه عند هذه الحدود فساهم في إعداد ملف ترشيح مدينة أور، أريدو، أوروك والأهوار إلى لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وشارك في العديد من المؤتمرات الوطنية والدولية عن الآثار، وألقى محاضرات في العديد من الجامعات الأوربية والأمريكية بخصوص الآثار العراقية، كما تولى مهمة مدير تحرير مجلة الآداب السومرية 2005، وعمل عضواً في جمعية الآثاريين في العراق واتحاد الصحفيين في العراق، وترأس اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين في محافظة ذي قار 2009، ونشر العديد من المقالات العلمية في الدوريات والمجلات العراقية والأجنبية باللغتين العربية والإنكليزية، وكتب فصولاً في عدد من الكتب، فضلاً عن كتاب "الكارثة نهب آثار العراق وتدميرها" عام 2017 الذي ساهم في مراجعة وترجمة الكتاب واضافة مقالين له، وتأليف كتاب "ألواح رافدينية ..حكايا الماء والقصب والطين" الصادر في العام 2020.

الكاتب والمترجم أمير دوشي وضع كتاباً مهماً في وقت قياسي بعنوان "احتضان اللهب" والصادر عن دار نشر السومري للطباعة والتوزيع في بغداد تخليداً لرجل عالم واثاري ووزير وعاشق لتأريخ بلاده الحضاري وأهمه ما ينتشر على خارطة بلاد سومر هو الدكتور عبدالأمير الحمداني وطوال مسافات المودة والتحليق في تلك الأيقونة المحبة التي جعلها أمير دوشي كتاباً، تشعر أنه يتمنى أن يستيقظ الحمداني من رقاده الصعب عندما كان على فراش المرض يعاني من مرض السرطان الخبيث، في رسالة عظيمة عنوانها الحفاظ على التراث الإنساني والاثاري لما تركه أهل سومر في أمكنه سلالاتهم في أور وأريدو والوركاء وتلو وايشانات الأهوار وتل العبيد ولارسا وبقية الأمكنة الأخرى.

الكتاب جاء في فصول أربعة : النهب – حرق الكتب – التنقيب – التراث الرافديني والآخر ، بعد أن مهد لها بقصيدة كتبها الشاعر العراقي الكبير شوقي عبدالأمير وقد أهداها وقتها الى صديقه الدكتور عبدالأمير الحمداني، ويربطها بوقائع أزمنة المكان وأثره البهيج على حافة أسوار مدن الطين والزقورات:

السلالمُ التي ترتقيها اليومَ

بُنيتْ أُولى درجاتها قبل آلاف الأعوام

الصوتُ الذي تتهجاهُ

أسمع أصداءه في حنجرة الوقت

الصلصالُ الذي تنهمكُ في تشريح جُثّته

لم تنطفئ تلك النار

التي خرج منها..

الحمداني أم زقورة أور التاريخية
ساهم خلال وبعد الغزو الأميركي للعراق في تأمين الحماية للمواقع الأثرية

وعزاؤنا أن الراحل الجليل الدكتور عبدالأمير الحمداني الوريث الشرعي لعمالقة الآثار وكبار مبدعي العراق، الذي غاب بجسده وبقي مشعاً بروحه وعطاءاته الخلاقة وبرغم خسارته التي لا تعوض أبداً، كان الاهتمام به كبيراً، حسبما يذكر أحد أصدقائه ومجايليه، من قبل زملائه وأصدقائه الأكاديميين والباحثين ممن يعرفون جوهره ويقدرون أهميته كباحث آثاري، لا يشق له غبار في مجال الأنثروبولوجيا، وقالت عنه الباحثة الأمريكية الكبيرة إليزابيث ستون "عبدالأمير باحث أسطورة ينبغي الانتباه له". لقد كان الراحل الجليل وسيظل أيقونة الثقافة العراقية المسكونة بروحية التواضع والخلق الرفيع، والثقافة الرصينة والحس والمسؤولية الوطنية الصادقة، فبات "أبو أوروك وحيدر" قدوة لجميع مبدعي العراق الأصلاء.