أحمد مجاهد يدرس حالة نشر الشعر في مصر

القارئ المعاصر في مصر لم يعد يقبل على قراءة الشعر العربي الفصيح بصورة تسمح بنشره وتوزيعه بشكل مربح.
لا يوجد في مصر موقع إلكتروني واحد متخصص في نشر الشعر
قصيدة التفعيلة لم يعد لها جمهور الآن ليرفع أرقام توزيعها
شعراء السبعينيات حرصوا على إسقاط الجمهور من حسابهم 
الجمهور ليس هو الفيصل في أحكام القيمة الشعرية

على مدى أربعين صفحة من صفحات التقرير الأول لحالة الشعر العربي، الصادر عن أكاديمية الشعر العربي بجامعة الطائف السعودية، استطاع الناقد الدكتور أحمد مجاهد أن يقدم رصدا إحصائيا دقيقا وتحليلا نقديا لبعض قصائد الشعراء المنشورة خلال عام 2018 سواء في الدواوين أو المجلات المختلفة التي تصدر في مصر، مما ساعد دراسته على اكتشاف النموذج المهيمن على الإبداع الشعري المصري الفصيح في هذا العام، وهو "قصيدة النثر". 
وقد استطاع مجاهد أن يتوصل في دراسته الكاشفة إلى أن ما تم إيداعه بدار الكتب المصرية فيما يتعلق بشعر الفصحى خلال هذا العام هو 150 إصدارا فقط. وهو ما يمثل حوالي 1 % فقط من جملة الكتب المنشورة خلال هذا العام. ويعترف بأنها نسبة متواضعة للغاية تمثل بداية صدمة حقيقية لمحبي شعر الفصحى.
ومن المفاجآت في هذه الدراسة عن حالة نشر الشعر في مصر خلال 2018 أن أكبر ثلاث دور نشر مصرية خاصة (وهي: دار نهضة مصر، ودار الشروق، والدار المصرية اللبنانية) لم تنشر خلال هذا العام سوى ديوان شعر واحد فقط، هو ديوان "لا أراني" للشاعر أحمد الشهاوي. ويُرجع مجاهد السبب في ذلك إلى قناعة اقتصادية مؤسَّسة على دراسات جدوى لهذه الدور مفادها أن القارئ المعاصر في مصر لم يعد يقبل على قراءة الشعر العربي الفصيح بصورة تسمح بنشره وتوزيعه بشكل مربح، فكان القرار الحاسم بالاستغناء عن نشره جملة، على حين دار أخرى مثل "دار الأدهم" تتصدر قائمة أكثر دور النشر اهتماما بنشر الشعر هذا العام في مصر برصيد 31 ديوانا فصحى وعامية، منهم 9 دواوين حديثة لشعراء عرب، بلغت نسبة الفصحى منها 18 ديوانا، ولوحظ اختفاء القصيدة العمودية من قائمة النشر بالأدهم، ووجود 5 دواوين لشعر التفعيلة فقط، مقابل 13 ديوانا لقصيدة النثر.

المجلس الأعلى للثقافة لم يصدر كتابا واحد تحت أي تصنيف خلال عام 2018 مع أنه من منصات النشر المهمة داخل وزارة الثقافة المصرية.

وعلى ذلك نرى أن شعراء قصيدة النثر في مصر الآن يمثلون تيارا جارفا يحاول ترسيخ أقدام تلك القصيدة، وشق طريق متفرد لها يتمتع بخصوصية إبداعية متميزة. ويعترف الشاعر فارس خضر صاحب دار الأدهم بأن الشاعر المصري يدفع تكلفة طباعة ديوانه كاملة للدار، والشاعر العربي يدفع أكثر من تكلفة المصري قليلا، وأن معدل توزيع الدواوين الشعرية لديه لا يتجاوز 50 نسخة خلال العام كله، وأن مكتبات التوزيع تحصل على نسبة خصم 40 % من سعر الغلاف، وتأخذ الدواوين على سبيل الأمانة، ولا تسدد إلا بعد البيع إن فعلت وسددت.
أما عن تجربة دار روافد فيقول مجاهد إن صاحبها إسلام عبدالمعطي صرح أنها نشرت 8 دواوين شعر فصحى خلال ذلك العام، وأنها لا تضم أي ديوان للشعر العمودي، وأن قصيدة النثر هي الأكثر رواجا في الإبداع الشعري، ولهذا فهي تفرض نفسها على سوق النشر. وأكد عبدالمعطي أنه لا يطبع أكثر من 500 نسخة للديوان الواحد، وأن معدلات توزيع الديوان خلال عام كامل لا تتجاوز 50 نسخة.
وتتوالى تصريحات أصحاب دور النشر الخاصة مثل دار أطلس ودار العين ودار ميريت وبتانة وغيرها، وما يلفت انتباه د. أحمد مجاهد في هذا الخصوص أن قصيدة التفعيلة لم يعد لها جمهور الآن ليرفع أرقام توزيعها، مبررا ذلك بأن (بعض) شعراء السبعينيات حرصوا على إسقاط الجمهور من حسابهم مطلقا، (ومن هذا البعض) من قال مباشرة: "المتلقي حيوان"، وهذا البعض – حسب مجاهد – "كرروا المعنى بعبارات مختلفة، بل عيروا بعضهم بعضا أحيانا بأن فلانا منهم يكتب شعرا مبتذلا بدليل تعاطف الجمهور معه في الندوات، وإن كان الجمهور بكل تأكيد ليس هو الفيصل في أحكام القيمة الشعرية على كل حال، كما أن قصيدة النثر نفسها، كانت حتى وقت قريب أكثر نخبوية من قصيدة التفعيلة".
أما عن جهود دور النشر الحكومية في نشر الشعر عام 2018، فيتحدث مجاهد بداية عن الهيئة المصرية العامة للكتاب التي أصدرت 45 ديوانا خارج السلاسل وداخلها. ويؤكد مجاهد أن فرسان قصيدة النثر احتلوا معظم ساحة الشعر، وأخذوا يعيدون ترتيب القصيدة وينسجون صورهم الجديدة برؤية مغايرة، وصرح مدير عام النشر بالهيئة جودة رفاعي أن 75 % تقريبا من الشعر الفصيح المنشور بالهيئة عام 2018 ينتمي لقصيدة النثر.
أما الهيئة العامة لقصور الثقافة فهي تصدر عدة سلاسل، أصدرت من خلالها 9 دواوين شعرية، نسبة قصيدة النثر فيها 67 %، وهناك ملاحظة مهمة يدونها مجاهد وهي أن مشروع النشر الإقليمي التابع للهيئة العامة لقصور الثقافة أصدر خلال 2018، 9 دواوين شعرية، منها 8 بالعامية، وواحد فقط فصحى تفعيلة، وكأن مبدعي النشر الإقليمي من الشعراء يفضلون الكتابة بلهجتهم الإقليمية الخاصة.
والملاحظة الأخرى الجديرة بالتوقف عندها أيضا أن المجلس الأعلى للثقافة لم يصدر كتابا واحد تحت أي تصنيف خلال عام 2018 مع أنه من منصات النشر المهمة داخل وزارة الثقافة المصرية.
ويرصد مجاهد أيضا ما تنشره المجلات الثقافية المصرية من شعر مثل مجلة الثقافة الجديدة، التي نشرت خلال 2018، 108 قصائد فصحى منها 48 تفعيلة، و60 قصيدة نثر، بنسبة تفوق لقصيدة النثر تبلغ حوالي 56 %.  

The case of Arabic poetry
الشعر وجد متنفسا حقيقيا على الصفحات الزرقاء 

كما يرصد مجاهد ما نشرته مجلة إبداع، ومجلة الشعر (التي توقفت تماما عن الصدور)، وجريدة أخبار الأدب، ويتوقف عند النشر الإلكتروني للشعر المصري وأكد أنه لا يوجد في مصر الآن موقع إلكتروني واحد متخصص في نشر الشعر، ويذكر أنه كان هناك موقع وحيد يدعى "قصيدة النثر" يديره أشرف الجمال وتوقف. أما المواقع الإلكترونية للمجلات الثقافية، فهي لا تنشر سوى نسخة pdf  من المطبوعة الورقية، وهي ليست مواقع تفاعلية مع القراء، ولهذا لم يعد للشعراء سوى صفحاتهم الخاصة على الفيس بوك، وربما يصح القول بأن الشعر قد وجد متنفسا حقيقيا على الصفحات الزرقاء بعد اختناقه في أزمات النشر الورقي.
كما يرصد د. أحمد مجاهد الجوائز الشعرية موضحا أنه يوجد في مصر العديد من الجوائز الشعرية الحكومية وغير الحكومية للشعر، ومنها جائزة الدولة التشجيعية، وجائزة أفضل ديوان بمعرض الكتاب، وجائزة وزارة الشباب في مسابقة إبداع الجامعات، ومسابقات مراكز الشباب، أما الجوائز غير الحكومية فأبرزها جائزة ساويرس في شعر الفصحى، وجائزة اتحاد الكتاب، وجائزة ربيع مفتاح لأبرز قصيدة (ولا أدرى هل ستستمر تلك الجائزة بعد وفاة صاحبها، أم لا؟).
ويلاحظ مجاهد أنه على مستوى الصحافة تراجعت مساحات الصفحات الثقافية بالجرائد، وتكرر اختفاؤها، وغابت عنها المساحات المخصصة لنشر الإبداع، ولم تعد تعرف معنى الاحتفاء بالشعر.
أما عن الإعلام المرئي والمسموع وهما الأكثر تأثيرا وتواصلا مع المتلقى فيلاحظ الباحث أن ما يقدم من شعر في برامج هذا الإعلام لا يمثل الشعر الحقيقي الذي يجب أن نحرص على نشره بين جمهور المتلقين.