أزمة دستور أم إفلاس أوليغارشية فاسدة؟

بعد أكثر من عقد ونصف من إدارتها للسلطة تعرّت النخبة الشيعية تماماً وأفلست في ادعائها تمثيل مظلومية الشيعة العراقيين.

تشهد ساحات المدن العراقية منذ بضعة شهور احتجاجات مدنية عارمة، لاسيما في مدن الجنوب العراقي، اتخذت شكل انتفاضة قوية أعمّ وأكثر انتشاراً في الأسابيع الأخيرة. منذ البداية انصب غضب المحتجين على مقرات الأحزاب الشيعية الحاكمة وعلى المؤسسات والشخصيات الرموز الموالية لإيران، أو تلك التي تمثل المصالح الإيرانية وتعدّ امتداداً سياسياً أو مذهبياً لها. إلا أن سخط المحتجين عبّر عن نفسه مؤخراً في شكل شعارات سياسية صريحة ضد النفوذ الإيراني والطبقة السياسية الفاسدة، التي تسلطت على رقاب الشعب ممثلة في الأحزاب الدينية والمذهبية. بموازاة ذلك صرنا نسمع للمرة الأولى على لسان المعتصمين والمحتجين مطالب بطرد الإيراني خارج العراق، الإيراني بدلالة النفوذ والموالاة. وأيضاً الدعوة لاستقلال القرار الوطني العراقي، والتحرر تماماً من نفوذ الأحزاب الدينية وخطابها المذهبي.

منذ أكثر من عقد ونصف مضى على الاستفتاء الدستور العراقي، تناوبت تلك الأحزاب على الحكم شراكة مع قوى سياسية، سنية وكردية، إلا أنها في الغالب حصرت بين يديها مصادر القرار السيادي والسياسي وكذلك الاقتصادي للدولة العراقية. وفي معظم الأوقات شكّلت أغلبية في البرلمان وفي السلطة التنفيذية، وهيمنت على الجزء الأعظم من ميزانية الدولة العراقية ووضعت يدها على الثروة القومية ومصادرها.

تمكنت تلك الأحزاب من النمو والانتشار من خلال الاستحواذ على أصوات الشيعة العراقيين، بعد سقوط نظام صدام حسين، عدة دورات انتخابية مستغلة المشاعر الدينية/المذهبية. إذ راحت توظف الذاكرة الجمعية للقهر والمظلومية لديهم وتتلاعب بمخاوفها خدمة لأجندتها السياسية، مثلما انتحلت صوت الضحايا طوال عقود من هيمنة استبداد البعث. بعد أكثر من عقد ونصف من إدارتها للسلطة تعرّت تماماً وأفلست في ادعائها تمثيل مظلومية الشيعة العراقيين، الذين عانوا أكثر من غيرهم القهر والبؤس والإملاق في ظل هيمنة أحزاب مذهبية ادعت تمثيلهم واحتكرته. لقد تصدأ بين أيديهم الآن صندوق الذاكرة الجمعية المقدس، الذي سطو عليه وفرضوا وصايتهم السياسية والأخلاقية، وظهروا كسدنة مرائين تاجروا بكل مقدس ومهيب لدى الشيعة المقهورين وحولوه إلى أشياء بخسة وموضوعات للمقايضات والمساومات السياسية.

ماذا كانت النتيجة بعد كل هذه المدة من حكم الأحزاب المذهبية؟ غياب مفهوم الهوية الوطنية المشتركة، الذي لم يتواجد أصلاً، وتكريس الانقسام المذهبي والاجتماعي بين العراقيين. تفاقم البؤس وسوء الأوضاع المعيشية. انتشار الجهل وشيوع الأمية، التراجع المروّع في مستوى التعليم وفي مؤسساته. خراب البنية التحتية، الطرق، الكهرباء، شبكة المياه.، الصحة.. الخ سرقة مئات المليارات من الدولارات من المال العام وضياعها وتقدّر بـ 700 مليار دولار. دمار مدن بكاملها بسبب الحروب الداخلية. خراب الاقتصادين الزراعي والصناعي. تفشي ظاهرة تعاطي المخدرات بشكل مهول. مليونا أرملة بدون أية ضمان أو رعاية. ملايين الأيتام…. الخ.

تلك هي الأسباب الموضوعية التي قبعت خلف الاحتجاجات القوية والصاخبة التي شهدتها المدن العراقية وتشهدها وقد باتت معمدة الآن بدماء المئات من الشباب، الذين قضوا برصاص أصحاب "القمصان السود". ولكن أعمق من تلك الأسباب يكمن عامل رئيس يتمثل في غياب سلطة القانون نتيجة تعطيل العمل بعشرات مواد الدستور العراقي، الذي يُراد له الآن أن يكون قرباناً أو ضحية لكل تلك الكوارث، يعلّق في رقبته لائحة كل الإدانات والأخطاء التي ارتكبتها المافيا السياسية التي حكمت العراق وعمدت إلى نهب ثرواته وتقويض أسس عمل الدولة العراقية.

لم تكتف هذه الطغمة بالهيمنة على مؤسسات الدولة ومقدراتها والتحكّم بثروات البلاد والعباد فحسب، إنما استغلت الحروب الداخلية، كي تعزز من نفوذها وسطوتها الاجتماعية والأمنية كذلك على حساب نفوذ الدولة الأمني الآخذ في التآكل إلى حدّ التلاشي. إذ راحت كلّ جماعة تؤسس لنفسها ميليشيا عسكرية، طائفية الأجندة والهوية، بموجب فتوى دينية ومذهبية، صادق عليها نواب الأغلبية المذهبية في البرلمان وشرعنت عملها في منافسة مكانة المؤسسة العسكرية الشرعية ودورها. وعلى النقيض من مواد الدستور العراقي أخذت هذه الميلشيا العسكرية تتلقى مواردها المالية واللوجستية من الميزانية العامة للدولة العراقية، واستباحت لنفسها الجغرافية العراقية حيثما وطئت أقدام عناصرها وخفقت راياتهم.

من مفارقات الحدث العراقي إن رموز وقادة تلك الأحزاب، الأكثر تورطاً في الفساد ونهب المال العام، عمدت بمكر في بدايات الاحتجاجات إلى الالتفاف عليها واحتوائها. فأعلنت انحيازها إلى جانب المتظاهرين ومطالبهم، وصبوا بدورهم جام السخط على الفساد وأهله، حتى أخذ المحتجون يتندرون مندهشين، قائلين، إذا كان كلّ هؤلاء ضد الفساد والفاسدين، ويطالبون مثلنا بالإصلاح والتغيير، فما معنى خروجنا للتظاهر، لِمَ نحن نتظاهر أصلاً وضد مَن؟!

في مرحلة تالية من الاحتجاجات راحت المنابر الإعلامية التابعة لهم تروّج لدى الجمهور وتشيع قناعة إن جذر الخراب والتدهور في العراق يكمن في الدستور القائم، الدستور (المسكين) الذي لم يعمل بأكثر من نصف مواده حتى الآن، وتمّ تعليقها من قبلهم بالفعل! واجترّ الكثير من محللي السياسية العراقية هذه الذريعة وراحوا يكررونها في كلّ أحاديثهم.

واقع الحال إن الدستور العراقي ليس هو الأمثل، وليس هنالك دستور مثالي على الإطلاق، لكنه يعدّ واحداً من أفضل الدساتير في الشرق الأوسط والعالم العربي رغم المثالب الموجودة فيه. هذه العيوب هي التي أتاحت لمثل تلك الأحزاب أن تتسلل في غفلة من الرأي العام وتتسلط على مصيرها وتستبدّ بأمرها. والحال إذا كان لا مناص من تعديله فينبغي أن يقرّ التعديل مواداً حاسمة تصبح دريئة قانونية أمام نشوء وعمل مثل تلك الأحزاب والمنظمات المذهبية التي ابتلعت دور الدولة العراقية. كما ينبغي أن تفصل بوضوح بين النطاقين، السياسي للدولة والديني للمؤسسة الدينية، وتؤكد على استقلال النطاق الأول عن الثاني.

الاحتجاجات قادت في نهاية المطاف إلى الإطاحة برئيس الوزراء عادل عبدالمهدي، الذي أقدم على الاستقالة تحت ضغط المحتجين، لا استجابة لدعوة المرجعية كما أعلن هو في خطاب استقالته. لكن هذه الخطوة لن تقود إلى الإصلاحات بالضرورة ولن تؤسس "وطناً للكلّ" كما أراد المنتفضون، والخشية هي أن تعدّ خطوة لتعبيد الطريق أمام طغمة الفساد السابقة لتأهيلها مجدداً وعودتها إلى السلطة تحت عناوين أخرى. فعادل عبدالمهدي، يعدّ بين النخب الشيعية هو الأقل تورطاً في الفساد المالي من البقية، كما أنه ليس الأقرب للإيرانيين من جميع الرموز السياسية المعروفة، مثل المالكي والعبادي وهو ليس الممثل الأفضل للأجندة الإيرانية في العراق، الأكثر ثقة ومصداقاً. فضلاً عن كونه الأكثر اعتدالاً وقبولاً لدى السنة العرب والكرد، والأشد حماسة لإعادة الاعتبار لمؤسسة الجيش العراقية وإصلاحها في مواجهة تغوّل نفوذ الحشد الشعبي (الشيعي)، وقد سعى بدأب إلى نزع الطابع الطائفي عن الأخيرة وانتزاعها من قبضة الإيرانيين والأحزاب الموالية لإيران. لقد ضحي به فقط لأنه كان مجرّداً من كل سلطة عسكرية ميليشياوية أو سلطة حزبية مذهبية، ولم يكن كذلك محصناً حوزويّاً من النجف أو من سواها. عادل عبدالمهدي كان مثل دستور بلاده "مسكيناً" عطّلت طموحاته وعلّق العمل بقراراته حتى تلقى على كاهله كلّ تلك الأخطاء القاتلة والمدمّرة.