أسطرة الحكي في رواية "حارسة الموتى"

اللحد يئن وحمدية وأعوانها ينشدون الظفر والربح، لا تهمهم أواصر الروح بالجسد في رواية عزة دياب. 
همهم الأكبر والمحوري من "يهبش" أكثر ويخزن غنائمه بالمعبد
تحميل الوعي الترابطي بين مشهد ومشهد منفصل لكن بدوران ارتدادي للبطلة حمدية

ندلاق اللذة من غمد الرمس وشرعنته في الرمس كمقوم منزوع من قيمه السلوكية لدى حمدية كبعاث مفصلي منخور في تأثيث معنى اللذة، أو ما قد نصطلح ها هنا - جزافا - "النبش التبريري الاستباقي" معادلة تدعو إلى تبرير المفعّل، وإن كانت نتيجة العوز والترمل، في هذه اللذة الإستباقية بين ما يدعو إلى التأمل في أول بطل رئيس رائد لها "الداهش"، لتليه حمدية، جابر ، الأستاذ عبده، أو إسماعيل وغيرهم.
انطلاقا من "أسطرة الحكي" كمدّ ومدد تسريدي في راوية "حارسة الموتى"، وهؤلاء  شخصوها المفصليون، وفيهم التابعون لهذه اللذة: ماهر، سعدون في شكله الأسطوري، الارتدادي، يشكلون القطب الوحيد، وهو اكتناز المال وأسطرة    المفاهيم –  سردا - وتصنيم الميت كعبادة "شجع". 
حجز حيز أو مقعد أو كرسي ريادة من قبل هؤلاء بجوف الرمس بات لديهم من "ألوهية" الريادة وسطوة وسلطة الذات والبداهة والحنكة والخبرة والمغامرة في ذات الأوان، لكن بقليل من الخوف والجزع والوجل، بات "صنعة" ظافرة  تجلب الأساور والذهب وغنائم الموتى الطازجة.
"أخلدة الروح الملتحقة بباريها لم تشكل لديهم عامل الرأفة، بقدر ما كانت مغنما  لجلب ما تبقى من أقراط ومجوهرات خاصة عند العرائس الجديدة، مثلما حدث مع عروس ماتت في أسبوعها الأول فنًهش قبرها وسلبت منها أساورها وخاتمها".
ضمن هذه المسلمات والأنساق تغدو عجرفة وجلافة الطباع في التعاطي مع مثل هذه  السلوكات. امتراس هذه المهنة جيء بها من واجهة  العوز، وتحتاج إلى مراس بالمقابل وتدريب على قهر الروح وتجريدها من عطفها.
اللحد يئن وحمدية وأعوانها ينشدون الظفر والربح، لا تهمهم أواصر الروح بالجسد. أواصر "الذرائعية" تغدو من وجهة أخرى قيّما مثالية في منظومتهم السلوكية. همهم  الأكبر والمحوري من "يهبش" أكثر ويخزن غنائمه بالمعبد.
إذا كان قول الشاعر الفرنسي (باتريس دوبان 1911-1975): "البلاد التي لا أساطير لها، محكومةٌ بالموت من البرد، فإن هؤلاء لا يهمهم أيضا منها هذا المقوّم الحضاري، الاجتماعي. "

novel
عزة دياب

غرائزية رجب مع ماهر أنتجتا لذة عشيرة الطوطامية في أبشع أبعادها اللاحضارية، اللإنسلنية. تجيء هي الأخرى بتفعيل من دواعي عوز رجب مع والدته ومأساتها  فانعكس على سلوكه المجتمعي.
ماهر المددل بالمدرسة والذي كان يهرب مع صديقه سعيد العائد من العراق والذي خذله أخوه في ميراث كان حجره الأساس. 
والدة رجب غسالة  الموتى وحارسة  القبور والموتى في ما بعد، والتي رمت ذات اشتهاء  بيولوجي من قبل الأستاذ عبده موثق كل العرائض بالبلد أطمارها الرثة ببيت الأستاذ ولبست جلبابا واستجابت لنزوعتها هي كذلك فارتمت بسريره وبين أحضانه ينهشها وتنهشه، كما ينهشان القبور، وهي لا تدري إن كان إنسا أو عفريتا، وهو  بنهم واشتهاء يزأر جوعا جنسيا.
استطلعت حمدية نزوتها الغرائزية طمعا في الزواج به، علما بأن هذا الأخير لم  يتزوج  قط، حتى أشيع عنه في الأوساط بأنه متزوج من جنية. بعد محاولة   اجتذاب وإغراء شقيق زوجها، حديث الوفاة، رغم غيرة زوجة أخيها كلها عوامل أنتجها العوز، وهو انعكاس لحالة التردي المعيشي في أعقاب "نهرات" حماتها ودفعها للزواج،  حتى تنفق على ابنيها: حامد ورحب، ففكرت بغواية الغريزة أن تتزوج وتستدرج شقيق زوجها وغيره. وإن كان بغيا في انتظار ترسميه كما حدث لها مع زوجها الذي لم يسجل أبناءه بسجلات الحالة المدنية عقب زواج عرفي إلا بعد أن  طلبها الأستاذ في وثائق كانت ضرورية إفادته بها لتحديد هويتهما وتسوية حالة معاش فاضطر أن يسجلهما على اسم جدهما وهو نفس اسم أبيهما. 
في ذات مشهد من روايتها قد لا أفصح عن موت حمدية، وكيف ماتت ورجب ابنها كذلك، حتى أترك للقارئ نكهة التجلي في ماهية رواية "حارسة  الموت" بالرغم من شيوع  الخبر أن رجب تعرض لحادث سير فمات.
أين "مخزونات" ماهر وعمران ودهاؤه والولد المحتجز؟ أين الديباج واللؤلؤ  والمجوهرات وخبث ودهاء حمدية، ضمن مشهدية من روايتها "حارسة  الموتى". ترشرش في أول مشهد لها الروائية المصرية عزة دياب جزءا من تضاريسها الحكائة بأول ذروعها "الداهش" أمام واجهة للتماهي بأسطرة العفاريت وانبعاث "الداهش" كمبنى دلالي وكتوظيف محكم في جلب ذائقة المتلقي.
"الداهش" خوذة الحكي والقص في تعاضدية سردية متزنة مغرية تمكنت فيها الروائية  بوعي ساردة تمتلك ناصية التوظيف من القبض على مكونات وكينونة السرد بكل أبعاده وعلى هوامشه تزرع ألفاظا ملغمة بإدهاش ثان بكل ما تمتلك جماليات السرد من مقومات وتقنيات التعاطي مع قشرة السرد وبواطنها، بمعنى "تسريد الممكن في زمكانيته وتضاريسه بوعي لافت، فكان الداهش واجهة هذه المفاصل السردية بامتياز، مشفوعة بـ"بوثبات" باللهجة العامية المصرية أضفت نكهة مميزة على "حارسة الموتى" كمقوم سردي دامع على صعيد الوجهتين: استطيقيا الشكل والمضمون  والتأثير في المتلقي معا، فكان الإدهاش من "الداهش" أحد الشخوص  الرئيسيين منعطفامحوريا لافتا.
اختيار "الداهش" كإستهلال ظل  لفظا ملغما بحنكة ساردة تعي ما تسرد.
عبر ممرات لحظات "ماضوية" (فلاش باك) هذا الذي ألجمته الروائية عزة دياب بكل اقتدار مما ينم عن أنها تمتلك ناصية "الطرز الجمالي" كغلاف لمضمون مؤثر قادم عبر فصول ومشاهد متتابعة، اختارتها ولولبتها أي المشاهد والفصول بعناية فائقة. الاسترجاع لديها مؤثث أيضا بحنكة وتؤدة ومراس مما أكسب رواية "حارسة الموتى" سُمكا دلاليا عزيزا. 
لم تكن الروائية عزة دياب عرافة، وهي تستنطق عالم الجن والعفاريت، ككاهنة أو قارئة طالع أو فنجان بل كانت مؤثثة، ومؤرخة لواقع مجتمعات عاشت على "أسطرة"   سقف الإيمان بأن "الجن تسكن الموتى وتتحول إلى أشباح. ضمن هذه الأنساق فككت أطر بناها المعماري التسريدي على جميع الجبهات.

رواية
الفبور

فكانت قارئة هذه السياقات الشعبية بوعي تنقيبي وإريكيلوجي أيضا في الحارات المصرية القديمة الشعبية، وما ألت إليه الخرافة في أوساط النسوة وعند الصيادين بضفاف النيل وبمنتج  "رشيد".
ضمن هذا المدارات أسست الروائية عزة دياب لمفهوم روائي وازن، استقرأت فيه  انثروبولجيا الطبقات الفقيرة  والجاهلة. لم تمارس السياسة في روايتها هذه إلا قليلا بإيحاءات خاطفة وعيا منها بأن ذات الرواية تتحدث عن عالم الأموات وهي من كانت حارسة المقابر والموتى معا.
استجلاء الأحداث في رواية "حارسة الموتى" تتقاطع أيضا مع مبنى انثروولوجيا  "الوهم"، وحتى فلسفيا في تطابق تنظيري مع مقولة الشاعر الفرنسي (باتريس دوبان، 1911-1975): "البلاد التي لا أساطير لها "، محكومةٌ بالموت من البرد"، هذا الأخير الذي يقرن في مقولته في ما معناها "يقصد من لا يمجد ثقافته يلسعه برد اللاهوية، في هذا المنظور يستدعي باتريس دوبان النخبة أن تتشبث بمقوماتها الحضارية والتثقيفية، مثلما تستدعي هذا الانشغال الروائية عزة دياب بيئتها وعالم الخرافة فيها من منظور استطلاعي اجتماعي.   
فيما تذهب إلى أبعد من هذا، فتجتث الروائية المصرية هذا المنحنى البنائي  الانثروبولجي في اجتلائها لخبايا الموروث الشعبي العام في سذاجته على صعيد "مكننة" المفاهيم لحضارية - سردا - وغيرها وهوية الشعوب (الشعب المصري كنموذج لمعتقدات العربية والمشرقية)، فتجنح  الروائية عزة دياب إلى الوعي  الباطني كقيمة ماهية وخيمة العواقب من خلال استبطان الوعي الشعبي وتداعيات  وتبعات هذا الاعتقاد.
بالدفء بنار الأساطير ولو كانت وهمية أو لا تستند إلى أسانيد، فقط - ضمن سياقات السردية - التثقيبية. تستظهر وعي العامة بأشكال مختلفة، هذا ما تمكنت  بوعي بنائي هندسي وتنقيبي الروائية من قصه "علامة مسجلة" في معتقدات  الشعوب المشرقية بتضاريس حكائية في غاية العجائبية السحرية، وأنت تقرأ " حارسة  الموتى" كأنما أنت أمام رواية غارسيا ماركيز في مده الاستبطاني خاصة روايته "مئة عام من العزلة"، وبالتحديد قرية ما كوندو كوعاء لمجريات الرواية.
تعالج هذا الإرث التقاطعي بين الموت والحياة بلسان المخاطب على لسان بطلتها الرئسة حمدية متبوعة بشخوص ثانوية:  العربي، ابنيها: حامد وجابر، وعمران  وماهر وسعيد وجارات الحارة  وغيرهن من مكونات هذا العمل الكبير "حارسة  الموتى" الذي حصد جائزة  راشد بن حمد عن جدارة واستحقاق.
إذا كان الشاعر الفرنسي بول فاليري (1871 ـ 1945) في مقولته المعروفة يقول  من منظور استنطاقي واستنباطي: "نحن، الحضارات، إننا نعلم أننا فانون". لماهية الروح بمعزل عن الجسد وطوطامية الغواية والعوامل  البيولوجية، فإن الروائية المصرية عزة دياب لم تستثن العامل البيولجي: أثنية "ماهر" وعلاقته المشبوهة مع  رجب المنحدر من بيئة فقيرة. أمه حمدية التي ترملت فأصابها العوز حتى العظام وحتى النخاع فاشتغلت "غسالة موتى" وحارسة مقابر، رجب لم يفلح في دراسته، التحق بمهنة أمه التي كانت تصحبه معها إلى المقابر، فكان فضوله كبيرا في  معرفة ما تقوم به أمه من نبش للقبور واجتلاب رزقها من غور الغياهب، ولو على حساب  القيم  الإنسانية من جوف المقابر، ومن باطن الأرض،  قبل أن تمتهن هذه المهنة التي درت عليها أموالا طائلة، علما أنها كانت تبحث عن رجل ولو بعلاقة غريزة قبل ثرائها من منتجات القبور، وغلبتها. في البدء، المهم أن تظفر برجل وهذا  ما حدث لها مع الأستاذ عبده. "

novel
حلة تاريخية لوقائع أزمنة بعينيها

ماهر المخنث يربط علاقة وطيدة مع ابنها رجب الذي يتعاطى الحشيش ويلف في  كل سيجارة كميته التي يتلقاها من ماهر وغيره ممن يساعدهم نظير جهده وأتعابه. 
"ماهر" المترف يسخر الجن لينقب عن الكنوز بالمنازل والأبنية المهترئة بمساعدة أعوان له، فيهدم المباني الهشة ويحولها إلى عمارات فاخرة. هذا المترف رجل أعمال له نفوذ بالأوساط  الحكومية النافذة في البلد.
على الصعيد الايركولوجي الفني المعماري التسريدي، تتقاطع الروائية عزة  دياب مع النسيج السردي  الكلاسيكي، النجيبي (نسبة إلى نجيب  محفوظ ) وجزء من تقنيات  التعاطي مع الشخوص وفق  مقتضيات النسيج الذي لا يمجد بطلا بعينه، كما في الرواية الكلاسيكية، فهي تنحت دلائلها وفق مقتضيات الحبكة كما الروائيين الجدد وعلى رأسهم رائد الرواية الجديدة آلان روب غرييه، ناتالي ساروت، ميشيل بوتور وغيرهم. في صلابة المعطى العام للنسيج الجمالي، الاستطيقي ووقائع الزمكانية في تسريدها وتحريكها لشخوصها الرئيسيين والثانويين معا حسب كل حالة حسية، وحسب متطلبات كل مشهد وفصل بلغة تغترف من قناعتها بأن التبيئ يجب أن  يكون حاضرا كحمولة معرفية وثقافية ودلالية لتحديد المكان والزمان.
مع تحميل الوعي الترابطي بين مشهد ومشهد منفصل لكن بدوران ارتدادي للبطلة حمدية. وهذا ما لمسناه لديها بين فصل وفصل ومشهد وآخر. امتدادا واغترافا من ثقتها في إمداد المتلقي بمكوناتها انطلاقا دوما من حمولتها الاستنباطية في تسريب هذه المكونات إلى القاري في حلة تاريخية لوقائع أزمنة بعينيها، تدليلا للعقبات  والعوائق المفصلة، وهذا ما أكسب هذا العمل عن جدارة حيازة الجائزة.