أسوان والكرنفال.. حين يعانق الفن الجمال

عندما تتعامد الشمس في وقت محدد على وجه رمسيس الثانى .. تقليد يتكرر في كل عام مرتين.
احتفالية كرنفالية تطيل اللحظة لساعات، وتستقطب الفرق الفنية من كل أنحاء المعمورة
بروجرام مكدس بالفاعليات الممتعة خلال خمسة أيام وليالٍ كأنها من وحى ألف ليلة وليلة

هنا .. حيث مَجمع كل شئٍ جميل .. الماء والتراث والقلوب البيضاء.. في بلاد الذهب أسوان أقيم على قصورها الثقافية مهرجان الثقافة والفنون في نسخته الثامنة.
الآن بات تقليداً سياحياً يتكرر في كل عام مرتين؛ أن تحتفل وزارة الثقافة بهذا الحدث الذي يجذب أنظار واهتمامات السائحين من كل العالم. عندما تتعامد الشمس في وقت محدد على وجه رمسيس الثانى بقدس الأقداس بمعبد أبوسمبل مرتين، في فبراير/شباط وأكتوبر/تشرين الأول. تلك الجماليات والظواهر الفريدة كانت تستتبع الحاجة لاستدعاء فنون الرقص التراثى والموسيقى الفلكلورية لاقتناص تلك اللحظات القليلة العابرة والاحتفاء بها في احتفالية كرنفالية تطيل اللحظة لساعات، وتستقطب الفرق الفنية من كل أنحاء المعمورة. 
بروجرام مكدس بالفاعليات الممتعة خلال خمسة أيام وليالٍ كأنها من وحى ألف ليلة وليلة. أروع وأفضل فرق الفلكلور العالمي تتبارى لتقديم الأفضل. بدأت الفاعليات يوم 16 فبراير/شباط، واختتمت فى العشرين من الشهر نفسه. وهو رقم لافت ومثير للدهشة: (20-2-2020)!
من أفريقيا هناك فرق جزائرية ومغربية وسودانية، ومن أوروبا فرق يونانية وبلغارية ورومانية وصربية، ومن الأميركتين فرقة مكسيكية، ومن آسيا أتت روسيا المميزة فى فنون الرقص بأنواعه. إلى جانب الفرق المصرية من مختلف محافظات مصر من مطروح إلى توشكى، ومن العريش إلى شلاتين.
الأجمل أن العروض جاءت على طريقة كأس العالم لكرة القدم! حيث أقيمت في ملاعب متعددة. هكذا مرّ الضيوف على مختلف قصور الثقافة من دراو إلى كوم أمبو إلى كلابشة إلى دهميت إلى الرديسية إلى السباعية حتى أدندان! بل إن طابور العرض الذي طاف شوارع أسوان في بداية المهرجان من قصر ثقافة العقاد حتى ميدان المحطة، كأنه كان يستدعى في مخيلة الحاضرين من مثقفي مصر والعالم رموز أسوان من مبدعين وفنانين وأدباء وقادة. وأن العقاد صاحب العبقريات هو تجلي من تجليات الذاكرة الأسوانية المبدعة.

الفنون الشعبية في حاجة ماسة لإعادة إحيائها وتشجيعها مع تنامي الاهتمام بدعم مشاعر الانتماء وحسم تساؤلات وجدليات الهوية الثقافية

أسوان.. أجمل مشتى فى العالم
بإمكاني قراءة تعبير الوجوه البيضاء الثلجية القادمة من سيبيريا وأوروبا حين لاحت لها شمس أسوان الصريحة الهائجة! أو تعليقات المصريين القادمين من بورسعيد الممطرة أبداً أو من الشرقية أو القاهرة، حين فاجأهم الصيف في شتاء أمشير! أو رأى المثقفين المحبين للهدوء والمنكوبين بالزحام عندما باغتتهم المدينة الرائقة الكارهة للسيارات المحبة للمراكب الشراعية السارية في صمت وبهاء.
مدينة لا يتعدى سكانها مليون نسمة يكاد بعضهم يعرف بعضاً بالاسم! ثلثهم نوبيون، والباقى من قبائل البشارية والعبابدة والجعافرة وبني هلال أو ما يطلق عليهم العرب لأنهم يتحدثون العربية بخلاف أهل النوبة بلغتهم النوبية المميزة. سميت باسم "سونو" على عهد الفراعنة، وتحولت إلى "سين" في العهد البطلمي، بينما أطلق عليها النوبيون "يبا سوان"، التي تعدلت إلى أسوان كما نعرفها اليوم.
ولأنها تمثل بوابة مصر الجنوبية، فقد اهتم بها قادة مصر منذ محمد علي الذى أنشأ على أرضها أول مدرسة حربية في مصر عام 1873، وفي العصر القديم استخدم إراتوستينيس أرضها لإثبات كروية الأرض، ونفي الاعتقاد القديم أنها مسطحة؛ فاتخذ من أسوان مرتكزاً وقت تعامد الشمس على مدار السرطان، وقام بحساب طول القوس المار بينها وبين الإسكندرية، فاستطاع بهذا استنتاج محيط الأرض!
معبد أبو سمبل هو الأشهر لكنه ليس الوحيد، فأسوان ثرية بالتراث والتاريخ. بها معبد خنوم فى جزيرة الفنتين، ومعبد فيلة، ومتحف النوبة الذي يضم نحو 5000 قطعة أثرية من آثار النوبة القديمة، وضريح أغاخان المقابل لجزيرة النباتات. وفندق كتراكت الأثري. ويكفي أن ننظر في صفحة النيل البكر، وفي وجوه العجائز والمعمرين في أسوان العريقة لنستقرئ فيها تاريخنا وأصولنا.
أسوان تزدان .. والبداية ديفيليه
في صباح يوم الأحد 16 فبراير/شباط انطلقت فاعليات المهرجان بإقامة ديفيليه ضم مواكب المراكب النيلية بمشاركة الفرق المصرية والأجنبية. بداية لافتة وجميلة. تلاها طابور عرض متحرك وحاشد، هكذا إلى الظهيرة، ثم فترة راحة تمهيداً لعروض المساء التي لا تتوقف. والبداية كانت مع الافتتاح الرسمى للمهرجان على مسرح فوزي.
أما يوم 17 فقد كان حاشدا بالفرق والعروض بداية من فرقتي العريش و"الأمارات" بقصر ثقافة أسوان، وفرقتي فلسطين والجزائر بجمعية منشية النوبة، والعرض الروسي بنادى كهرباء صحارى، ثم شلاتين والمكسيك بقصر ثقافة دراو. وبورسعيد وبلغاريا بقصر ثقافة كوم أمبو، أما قصر ثقافة حسن فخر الدين بنصر النوبة فاستقبل فرقتي اليونان والمغرب، بينما في بيت ثقافة كلابشة شهدنا عروض فرقتي أسيوط وتوشكى، كما قدمت فرقة السودان عروضها على مسرح قصر ثقافة دهميت. 

فرقتا مرسى مطروح وبولندا قدمتا عروضهما الفنية بقصر ثقافة الرديسية، بجانب عروض فرقتى صربيا والشرقية بقصر ثقافة السباعية، أما عروض فرقتي الوادى الجديد ورومانيا فاستضافها بنادى أسوان الرياضي، والختام كان مع سيريلانكا وسوهاج بقصر ثقافة أدندان.
هكذا تواصلت العروض الفنية الراقصة خلال أيام وليالي المهرجان على نفس النمط الحاشد المكثف دون توقف حتى يوم 20 فبراير/شباط. بعدها انتقلت الفرق إلى مدينة أبو سمبل السياحية لتقدم عروضها في مسرح أبو سمبل وصباح يوم التعامد في بهو  المعبد وسط السائحين القادمين من جميع أنحاء المعمورة ليشهدوا ظاهرة تعامد الشمس الفريدة المبهرة .
على قوائم اليونسكو 
في عام 2005 تم إدراج مدينة أسوان وتسجيلها باليونسكو باعتبارها واحدة من المدن المبدعة عالمياً. وهذا أقل مما تستحقه مدينة تاريخية كأسوان، أرض الذهب والتراث. 
كان الاختيار موفقاً لإقامة المهرجان الثقافي الفني في أسوان لا في غيرها. خاصةً فى ظل سعي الدولة إلى تفعيل دور الصعيد وإشراكه في جني ثمار التنمية على مختلف الأصعدة الاقتصادية، وعلى رأسها السياحة التي لا تزال تمثل دخلاً رئيسياً للدولة.
ثم أن الفنون الشعبية في حاجة ماسة لإعادة إحيائها وتشجيعها مع تنامي الاهتمام بدعم مشاعر الانتماء وحسم تساؤلات وجدليات الهوية الثقافية، لا سيما وقد شرعت هيئة قصور الثقافة برئاسة د. أحمد عواض في إصدار سلسلة ثقافية جديدة تحت عنوان "الهوية" قرأت منها كتاباً في غاية الأهمية لمؤلفه صبحى وحيدة عنوانه: "فى أصول المسألة المصرية"، إلى جانب الاهتمام العظيم الذي توليه وزارة الثقافة لإعادة إحياء الفنون اليدوية التراثية، بل وتسويقها في منافذ بيع بمختلف محافظات مصر. أمثال هذه الفاعليات الواعدة تشير إلى نشاط غير مسبوق من وزارة الثقافة تحت قيادة ساحرة الفلوت الدكتورة إيناس عبدالدايم.