أصبح الدهرُ منشدا

في القواميس والمعاجم وبعض كتب اللغة ودواوين الشعر، وجدت معاني ومسميات مختلفة للدهر.

سبحان القائل في محكم التنزيل "هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" (الإنسان – 1). وسبحان القائل في حديث قدسي "يؤذيني ابن آدم: يسبُّ الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار"، وصلى الله عليه وسلم القائل في حديث نبوي: "لا تسمُّوا العنبَ الكرمَ، ولا تقولوا خيبة الدهر، فإن الله هو الدهر".

وفي القواميس والمعاجم وبعض كتب اللغة ودواوين الشعر، وجدت معاني ومسميات مختلفة للدهر، منها ما اتفق على أن الزمان والدهر واحد، أو أن الدهر هو الزمان الطويل، أو الزمان قلَّ أو كثر، ومنها أن الزمان يقع على جميع الدهر، وبعضه، ومنها أن الزمان: شهران إلى ستة أشهر، أما الدهر فلا ينقطع، ومنها أن الدهر يقع على وقت الزمان من الأزمنة، وعلى مدة الدنيا كلها، ومنها من يقول إن السنة عند العرب أربعة أزمنة: ربيع وقيظ (صيف) وخريف وشتاء، ولا يجوز أن يقال للدهر إنه أربعة أزمنة، فهما يفترقان.

وقد ذهب صاحب "القاموس المحيط" إلى أن الدهر قد يعدُّ في الأسماء الحسنى. كما لاحظت أن لفظتي الزمن والزمان لم تردا في القرآن الكريم، واكتفى النص القرآني بكلمة الدهر، عوضا عنه.

وورد "الدهر" كثيرا في الشعر العربي، خاصة الشعر القديم، بمسميات ومعان مختلفة، قلّ وجودها في شعرنا المعاصر، ومن هذه المسميات "أُبْض". يقول رؤبة العجاج:

في حقبة عشنا بذاك أُبْضا ** خدن اللواتي يقتضبن النُّعْضا 

والنعض: شجر شائك يُستاك به.

ومن أسماء الدهر: المنون. يقال: أُخرى المنون، أي آخر الدهر، و"لا أفعله أُخرى المنون" أي لآخر الدهر أو أبدا، ويقال: "لا أكلمه آخر الدهر وأخرى المنون".

وقال كعب بن مالك الأنصاري:

ألا تزالوا ما تغرد طائرٌ ** أخرى المنون مواليا إخوانا

ويُقال أَرِبَ الدهرُ، أي اشتدَّ، وفي هذا يقول أبو داود الأيادي يصف فرسا:

أرِبَ الدهرُ فأعددتُ له ** مُشرِفَ الحارِك محبوكَ الكَتَد

والحاركُ: فرع الكاهل، والكاهل: ما بين الكتفين. والكتد: ما بين الكاهل والظهر، والمحبوك: المحكم الخلق.

وقولهم: "أرِبَ الدهرُ" كأن للدهر أَرَبَا يطلبه عندنا، فيلحُّ لذلك. ويقال "أرُبَ الدهرُ يَأرَبُ" إذا اشتدَّ.

ومن الأقوال المعروفة والشائعة عن الدهر قولنا: أكل عليه الدهرُ وشرِب، والعبارة تُقال لمن طال عمره، ويريدون أكل وشرب دهرا طويلا. قال الجعدي:

سَألتْني عن أُناسٍ هَلَكوا ** شَرِبَ الدهرُ عليهم وأكَل

وقال آخر:

فأخلِفْ وأتلِفْ إنما المالُ عارةٌ ** فكُلْهُ مع الدهرِ الذي هو آكله

ويطلق لفظ "الأُمَّة" على الحين من الدهر، ومنها قوله عزّ وجل: "وادَّكَر بعد أمَّةٍ" (يوسف: 45) أي بعد حين من الدهر. وقوله عزَّ وجل: "ولئن أخَّرنا عنهم العذابَ إلى أُمّةٍ معدودة" (هود: 8). وفي هذا يقول الشاعر:

عُمِّروا أُمَّةً من الدهرِ فيها ** آهلاتٍ أعزَّ قومٍ جَنَابا

ويقال الأثرمان هما الدهر والموت. قال ثعلب:

وهبتُ إخاءكَ للأعميينِ ** وللأثرَمينِ ولم أَظلِمِ

والأعميان هما السيل والنار، والأثرمان في معنى آخر: الليل والنهار.

ويقال: لا أفعل ذلك جَدَا الدهر، أي أبدا. ويقال إن جَدَا الدهر بمعنى يد الدهر. قال الأعشى:

رواح العشي وسير الغُدُوِّ ** جَدَا الدهرِ حتى تلاقي الخيارا

ومن مسميات الدهر أيضا: الجَذَع، وسُمي بذلك لجِدَّته، أو لأنه جديد. فالدهر أبدا جديد، كأنه فتى لم يُسِنّ أو شابٌ لا يهرم، والأصل في الجَذَع هو الصغير السن.

قال الأخطل:

يا بِشرُ لو لم أكُن منكم بمنزلةٍ ** أَلقى عليَّ يديه الأزلَمُ الجَذَعُ

أي لولاكم أو بدونكم لأهلكني الدهر، وقد صار الشطر الثاني مثلا.

وقيل الأزلم الجذع هو الدهر الشديد، وقيل الشديد المر، وقيل الدهر الكثير البلايا أو المتعلق به البلايا والمنايا.

قال العباس بن مرداس (وقيل إن البيت منسوب لمالك بن أبي ربيعة العامري):

إني أرى لَكَ أكْلا لا يقومُ به ** من الأكُولةِ إلا الأزلَمُ الجَذَعُ

وقال ابن الزبير:

وإلاَّ فأسلِمهُمْ إليَّ أدَعْهُمُ ** على جَذَعٍ من حادثِ الدهر أزلَمَا

وقال آخر:

إني أخافُ عليه الأزلما الجَذَعا

وفي لغة قيل "الأزنم الجذع" (بالنون) ومعناه أن المنايا منوطة به، أخذها من زنمة الشاة، ومن قالها باللام (الأزلم) أراد خفَّتها.

وأصل الأزلم الجذع، الوعل الذي يقال عنه مُزَلَّم.

قال الشاعر:

لو كان حيٌّ ناجِيًا لنجا ** من يومِهِ المُزَلَّمُ الجَذَعُ

وقد ذكر أن الوعول والظباء لا يسقط لها سِنٌّ، فهي جُذعان أبدًا، وإنما يريدون أن الدهرَ على حالٍ واحدة. وقالوا: "أوْدى به الأزلمُ الجَذَعُ أو الأزنَم الجذع" أي أهلكه الدهر. ويقال ذلك لما ولَّى وفات ويُئس منه.

ويقال: جرَّستْكَ الدهور، أي حنَّكتك وأحكمتك وجعلتك خبيرا بالأمور مجربا. وأنشد اللحياني:

العصرُ قبل هذه العصور

مُجَرَّساتٍ غِرَّةَ الغرير

بالزجرِ والرَّيمِ على المزجور

والعصر: الزمن والدهر، والريم: الفضل.

وجرَّس الدهرُ فلانا: حنَّكه وجرَّبه. والمُجَرَّسُ من الناس: الذي جرَّب الأمورَ وخبرها.

ويقال: حوادث الدهر أو حَدثان (بسكون الدال وفتحها) الدهر، أي نوائبه وحوادثه ونوازله، واحدها: حادث.

قال البعيث:

أتى أبدٌ من دون حدثان عهدها ** وجرَّت عليها كلُّ نافجةٍ شَمْلِ

وقال شاعر:

لعمرُكَ ما أدَّى امرؤٌ حقَّ صاحبٍ ** إذا كان لا يرعاه في الحدثانِ

أما الحَرْسُ فهو الدهر، أو الوقت الطويل منه، والجمع: أحرُس (أحرُس في اللسان والقاموس والوسيط، وأحْراس: في المنجد والأساس).

قال امرؤ القيس:

لمَنْ طَللٌ داثرٌ آيُهُ ** تقادَمَ في سالِفِ الأحْرُسِ

وقال آخر:

وقفتُ بعرَّاف على غير مَوقفٍ ** على رسمِ دارٍ قد عَفَتْ منذ أحرُسِ

أما الحَقْبُ والحُقُبُ، فهي المدة الطويلة من الدهر، قيل: ثمانون سنة، وقيل: أكثر من ذلك، والجمع: حِقاب وأحْقاب. والحِقْبة من الدهر: مدة لا وقت لها، وقيل: السنة. والجمع: حِقَب وحُقُوب وأحْقُب.

قال ابن هرمة:

وقد وَرِثَ العباسُ قبل مُحمَّدٍ ** نبيَّينِ حَلاَّ بَطن مكَّة أحقُبا

وقال متمم بن نويرة:

وكنَّا كَندْمَاني جَذيمةَ حقبةً ** من الدهرِ حتى قيل لن يتصدَّعا

فلما تفرَّقنا كأني ومالكًا ** لطولِ اجتماعٍ لم نبتْ ليلةً معا

ويقال: حلبَ الدهر أشطرَه. أي اختبر شطري الدهر؛ خيره وشره، فعرف ما فيه. ويضرب المثل فيمن جرّب الدهر في جميع أحواله، أو للرجل العالم بالدهر، وهو مستعار من "حلب أشطرَ الناقة" وذلك إذا حلب الرجل خلفين من أخلافها، ثم يعود يحلبها خلفين أيضا، وكل خلفين شطر، ونصب أشطرَه على البدل، فكأنه قال "حلب أشطرَ الدهر".

قال المتنبي:

وقد حلبتُ لعمري الدهرَ أشطُرَهُ ** تخطو بهمّة لا وانٍ ولا نَصِبِ

والمتنبي أطلق على الحمّي: بنت الدهر، في قوله:

أَبِنتَ الدهرِ عندي كلُّ بناتٍ ** فكيفَ وصلتِ أنتِ من الزحامِ

وقال يزيد بن حذّاق يرثي نفسه:

هل للفتى من بناتِ الدهرِ من واقِ ** أمْ هل له من حِمام الموتِ من راق

ومن الشائع حاليا أن يطلق على الدهر، الزمان أو الزمن، وقالوا: الزمان يقع على جميع الدهر أو بعضه كما ذكرنا في المقدمة، وقيل الدهر عند العرب يقع على وقت الزمان من الأزمنة، وعلى مدة الدنيا كلها, ويقول المتنبي:

ولكَ الزمانُ من الزمانِ وقايةٌ ** ولك الحِمَامُ من الحِمامِ فداءُ

والدهر عند المتنبي هو الذي يُنشد شعرَه أو يرويه حيث قال:

وما الدهرُ إلا من رواةِ قصائدي ** إذا قلتُ شعرا أصبح الدهرُ منشدا

وعندما قال الفرزدق:

فإني أنا الموتُ الذي هو نازلٌ ** بنفسِك فانظرْ كيفَ أنتَ تحاولهْ

أجابه جرير بقوله:

أنا الدهرُ يُفني الموتَ، والدهرُ خالدٌ ** فجئني بمثلِ الدهر شيئا تطاولهْ

وسبحان القائل عزّ وجل في سورة الجاثية، الآية 24: "وقالوا ما هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر".