أعداء الروح: جرائم باسم الحب

"لماذا قتلها؟ كان يمكن أن يغتصبها!" هكذا يفكر عدد ليس قليلا من الشباب.

الروح سر من أسرار الله، بحث الفلاسفة عن كنهها، فتساءلوا ما هي الروح؟ وأين مكانها؟ تحدثوا عن الروح الطيبة والروح الشريرة، فتحدث أفلاطون عن تناسخ الأرواح وقال: "أن الروح أساس لكينونة الإنسان"، وأمر سقراط مواطنيه أن يعتنوا بأرواحهم. وفي القرآن: "قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" سورة الإسراء: الآية 85، وفي المسيحية: "خلق الله الإنسان بإعطاء حياة للجسد الذي صوره ثم بخلق روح عاقلة وهبها للإنسان" (تك 2: 7).

 وبرغم كل ما شغلته الروح من مساحة في الفلسفة والفكر الإنساني والديانات والأديان، وتوفير الحماية لها لأنها من الكليات أو الضروريات الخمس التي يحفظها الدين، إلا أنه هناك طائفة يمكن أن نطلق عليهم "أعداء الروح"، لا يقيمون للروح حرمة، ولا يعترفون لها بقدسية، ولا يقرون بأن "من منح الروح هو وحده من يملك أن يقبضها إليه"، بل ويزيدون من جرمهم حين يبررون جرائمهم أنها كانت بدافع الحب، تلك المشاعر السامية العظيمة.

ولكن حقيقة الأمر أن "أعداء الروح" يقتلون لأنهم لا يتقبلون الرفض، يقتلون لأنهم متملكون، ويقتلون لأنهم غير واثقين من أنفسهم، فهم يستمدون تلك الثقة من تقبل الآخرين لهم.

كم من محب ابتعد عنه محبوبه ورفض أن يكمل معه الطريق، فتحدى وواجه لحظات ضعفه، وكان ذلك حافزا له للنجاح، وقصص المشاهير وغير المشاهير في ذلك كثيرة.

ولكني هنا بصدد الحديث عن من لم يتقبلوا الرفض، ففي فترة وجيزة حدث في منطقتنا العربية أكثر من حادث مقتل لفتاة على يد شاب رفضت الارتباط به، منهن أربعة في مصر، كانت أولها حادث نيرة أشرف، في وضح النهار وأمام جامعتها، توقعنا أن يكون العقاب ليس فقط رادعا وسريعا، ولكن قاسيا أيضا من باب التعزير لهذا الجرم الشنيع، ولمنع تكراره. ولكن بحثا عن الشهرة والمال، ترافع عن القاتل محامٍ، ووجد القاتل من يدافعون عنه، بل ويبررون جريمته في حق فتاة بريئة، بل وفي حق المجتمع كله وسلمه وأمنه، مبررين ذلك بأن الفتاة متبرجة، وأنها كانت تسافر وحدها، وأنها كانت على خلاف مع أهلها، فأجروا محاكمتها غيابيا دون أن يكون لها الفرصة في الدفاع عن نفسها، لأنها غابت غيابا أبديا. ورغم أن العقلاء استنكروا هذا الجرم وقالوا لا يمكن أن يبرر، فهو سيفتح الباب أمام جرائم مثلها، لم يجد كلامهم صدى لدى من برروا ذلك، فقد أسمعت إن ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي.

ليتحقق بعد وقت قصير ما توقعناه جميعا، فتكررت نفس الحادثة في يونيو 2022، أي نفس شهر مقتل نيرة أشرف حين لقيت طالبة جامعية أيضا حتفها على يد شاب داخل إحدى الجامعات الخاصة في عمان بالأردن، رميا بالرصاص. وهذه المرة كانت الفتاة محجبة، فصمت بعض المدافعين عن القتلة، من فئة المدافعين عن القاتل بسبب عدم حجاب الفتاة، ولكن استمر باقي المبررين الدفاع عن القتلة لمجرد أنهم ذكور من نوعية،  نحن لا نعرف الجريمة التي ارتكبتها الفتاة، والسبب في ذلك؛ أن هؤلاء الأشخاص تربوا على أن المجتمع يجب أن يحاكم الفتاة في أي جريمة حتى لو كانت الضحية، فهي الطرف الأضعف. ولو قمنا بعمل تحليل نفسي سريعا لأولئك الأشخاص، سنجد أنهم اعتادوا على الخضوع والخنوع للأقوى، فكونهم لا يستطيعون مواجهة الشخص المجرم خوفا من بطشه في حياتهم اليومية، فقد اعتادوا ذلك، وأصبحوا بلا وعي يبررون دائما للمجرم، فما بالكم لو كان هذا المجرم ذكرا اعتادوا أنه إنسان من الدرجة الأولى، والمجني عليها فتاة اعتادوا انها من الدرجة الثانية، فلا تندهش حين ترى استمرار البعض في الدفاع عن قاتل.

الأغرب من تلك التعليقات التي تصدم من يقرأها على أخبار كتلك، يهتز لها عرش الرحمن، فتجد من يقول: "لماذا قتلها؟ كان يمكن أن يغتصبها!" هكذا يفكر عدد ليس قليلا من الشباب، الذين يتواصلون سويا من خلال مجموعات خاصة على تيليغرام، نفس الشباب الذين سمحوا لأنفسهم أن يلتقطوا صورا لفتيات آمنات في المواصلات، أو يسرن في الشارع، ويلتقطون صورا لهن مع التركيز على مناطق معينة من أجسادهن وينشرونها في مجموعاتهم الخاصة مع تعليقات جنسية سخيفة، فقد استحلوا ما حرمه الله، وشجعوا بعضًا عليه، واعتبروه مزحة وهزارًا بينهم البعض. فالمرأة في نظرهم، أي امرأة هي جسد مباح النظر إليه واشتهائه والتحرش به، لذا فلماذا لا يغتصب المحب محبوبته حتى يمنع غيره من الزواج بها، ولا يعلم بجهله أن الاغتصاب مجرم حتى بين الزوجين، ولن أطلب منك ألا تندهش حين أقول لك بعض أقوالهم الأخرى من نوعية "لا تسمح لأحد أن يأخذ حبيبتك، إن رفضك أهلها اقتلها" أو "اقتلها وانتحر المهم ألا تكون لغيرك" أو "اقتل أباها الذي رفضك"، وكأن الرفض غير مقبول، وكأن تقبل الشخص أصبح فرض عين على كل من يعرفه، وكأن الفتاة ليست لها حرية الاختيار، أو إرادة الرفض، وليس لأهلها الحق في تحديد من يصلح لمناسبتهم ممن لا يصلح ما دام رأى هذا الشاب أنه يصلح وما دام رغب في الارتباط بهذه الفتاة، فليس مهما دينه ولا خلقه، ولا إمكانياته المادية، ولا سمعته بين الناس، ولا مدى التكافؤ بينهما، كلها شكليات.

بل إن هناك شخصيات من مشاهير تيك توك يردون على متابعيهم الذين يستشيرونهم في قضاياهم العاطفية رغم أنهم ليسوا من أهل اختصاص، بالتحريض الواضح والصريح ضد المرأة، ولا يفكر هؤلاء المتابعون في الدافع وراء هذا الهجوم على المرأة، والذي بالتأكيد إن حللناه سنكتشف أن هذا الشخص لديه عقدة من المرأة قد تعود لطفولة قاسية من تعامل الأم معه، أو زوجة الأب، أو تربى في بيت يرى أن الذكر أفضل من الأنثى، أو من مرحلة الشباب من رفض فتاة أو أكثر له، فقرر أن ينتقم من جميع النساء بالتحريض عليهن.

إن كنت متابعا لتلك السلسلة من الجرائم التي ترتكب زورا وبهتانا باسم الحب، فلابد أنك عرفت أنه هناك ثلاث ضحايا أخريات، وهن سلمى بهجت، التي قتلها زميلها في الجامعة الخاصة، لأنها تفوقت في دراستها، وشعر أنها استغلته لتتفوق، رغم أنه فعل ذلك بإرادته، ولذلك علق بعض الأشخاص "إن من تستغل زميلها في الجامعة تستحق القتل"، وكأن الرد الطبيعي للمساعدة هو الحب والزواج، على الرغم من أن الجميع شهد بأن الولد كانت له أفكار غير سوية، ومدمن وكان يضرب والدته وأخته.

وأماني عبدالكريم، التي قتلها من رغب في الزواج منها، ثم انتحر، خوفا أن تكون لغيره بعد موته، أو هروبا من محاكمته. وكانت آخر الضحايا خلود السيد، التي تمت خطبتها لزميلها بالعمل، ثم اكتشفت سوء خلقه، فانفصلت عنه، فقتلها أمام منزلها، وهي يتيمة الأم والأب وتعول أخاها الطفل البالغ من العمر 9 سنوات، قتلها بدم بارد.

تلك الحوادث الكثيرة لفتيات كلهن في ريعان الشباب، حدثت في فترة قصيرة وهي من يونيو 2022 إلى أكتوبر الجاري. كنت أتمنى أن نغلق القوس بعد هذا العدد المؤسف من الجرائم، ولكن سيظل القوس مفتوحا حتى يكون هناك رادعا قويا، ورفضا مجتمعيا بالإجماع وصحوة في الضمائر والنفوس، تعرف أن مثل تلك الجرائم لا مبرر لها، وأن للروح قدسية عظيمة عند خالقها.