ألسنا في عصر متشائم؟

غزة لم تعد غزة: لا يهمني هنا إن خرج المحاربون منتصرين أو مهزومين من حربهم. يهمني أن تلك المرأة صارت على يقين من أنها لن تجد بيتها.

ما الذي يجعلنا ننظر إلى الحياة من زاوية متفائلة وكل شيء من حولنا في حالة انهيار؟

من أجل هدنة مؤقتة وإطلاق سراح 350 أسيرا أو محتجزا من الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني سقط أكثر من 13 ألف، نصفهم من الأطفال. ولكن مهلا. ما أقسى تلك الأكثر التي تبدو مبهمة. ما معنى "أكثر" من 13 ألفا؟ تعني هذه الـ"أكثر" ما بين 300 و400 شخص، روحا، مشروعا بشريا وأيضا خيالا وفكرا وعلما. هل يصح لنا هنا أن نلجأ إلى ميزان إنساني في وصف تلك المعادلة التي صنعها الرصاص؟

أعرف أن هناك من سيقول "لقد قفزت على القضية" ولكن ما الذي ربحته القضية، إذا كان المقصود القضية الفلسطينية؟ سيُقال "لا تكن ضيق الأفق فتنصاع للحاضر". طيب، ما الذي ستربحه القضية في المستقبل في مقابل التضحية بأرواح الأطفال والنساء والمرضى والعاجزين.

هناك شيء آخر. لقد حدثت أكبر عملية تهجير تعرض لها الشعب الفلسطيني بعد نزوح عام 1948. هل سيعود النازحون إلى ديارهم هذه المرة أم أنهم سيلتحقون بالنازحين الذين ماتوا وهم يحلمون برؤية مواقع طفولتهم وصباهم؟ ثم لا أحد يضمن بأن يجد بيته إذا ما سُمح له بالعودة هذه المرة. لقد تعرضت غزة لتدمير وحشي لم تتعرض له في الحروب الستة السابقة. "غزة لم تعد غزة" ذلك ما قالته امرأة من المهجرين وهي تصف حجم الدمار الذي سببه العدوان الإسرائيلي. لا يهمني هنا إن خرج المحاربون منتصرين أو مهزومين من حربهم. يهمني أن تلك المرأة صارت على يقين من أنها لن تجد بيتها. ستكون سعيدة لو عثرت على أولادها الأربعة الذين تركتهم في مخيم جباليا أحياء. ثمن يدفعه الأحياء الذين ربما سيتمنون لو أنهم التحقوا بأحبتهم الموتى ولم يبقوا عرضة لهذا الألم العظيم.

سيُقال أن السياسة لا تتحمل مثل هذه اللغة العاطفية. ولكن شعبا فقد أكثر من 13 ألفا من أحبته وتم تهجيره من مدينته التي مُحي الجزء الأكبر منها لن يكون في إمكانه أن يفهم لغة السياسة مهما كان النشيد الوطني قويا ومهما ازدحمت سماء العالم بالأعلام الفلسطينية ومهما صُدم الرأي العام العالمي بوحشية آلة الحرب الإسرائيلية. لا أسمح لنفسي بالإفتاء وأنا أعيش بعيدا عن المجزرة. ولكنني عشت مجزرة شبيهة وتابعت بألم قاتل فظاعة مجازر أخرى تعرض لها العراقيون بعد الاحتلال الأميركي.

أعرف ما الذي يعنيه موت الأحبة. وأدرك أن مزاد الوطنية لا ينبغي أن يكون صوته أعلى من أصوات الضحايا. وإلا فنحن نخسر قضايانا مثلما نخسر أوطاننا. لست مضطرا للحديث عن الكذب. في كل العالم يكذب السياسيون. بعضهم يزعم أنه يكذب من أجل غايات نبيلة والبعض الآخر يكذب حتى لو كان الثمن وقوع مئات الألوف من البشر قتلى من جراء كذبته. ولكن ما من كذبة قاومت التاريخ. فحين ارتكب حزب الله حماقة حرب 2006 دفع لبنان واللبنانيون ثمن تلك الحرب. دُمرت البنية التحتية للبنان وتم تشريد أكثر من 300 ألف عائلة، استقبلتها سوريا يومها. هُزم لبنان من غير أن يكون طرفا في تلك الحرب ولم يُعاقب حسن نصر الله الذي يحتفل كل سنة بنصر 2006.

حتى لو انتهت الحرب هل ستكون غزة كما كانت من قبل مدينة عيش؟ أشك في ذلك. لقد فعل نتنياهو ما كان يتمنى القيام به منذ سنوات طويلة. مقابل الأصوات الانتخابية التي سيحصدها قتل آلافا من الفلسطينيين الذين لم يرتكبوا ذنبا سوى أنهم يقيمون في غزة التي يعرف العالم كله أنها لم تعد جزءا من فلسطين التي وقع زعماؤها وثائق السلام مع إسرائيل. عرف نتنياهو كيف يستغل تلك الثغرة القانونية. وهو ما شجع الغرب على الوقوف وراءه في جريمته. واقعيا فإن تلك الجريمة لن تسمح لأحد بأن يرفع رأسه. سيكون على الجميع أن يشعر بالعار.

فلا إسرائيل انتصرت ولا حركة حماس. وما من أحد دعم الطرفين سيشعر بالإنتصار الذي إن تم التعبير عنه بالكلمات فلا طعم له سوى الرماد. لقد صنع نتنياهو مأثرته في جحيم غزة. غير أن ذلك الجحيم لن يبقيه في منصبه فلا أحد في العالم سيتحمل مسؤولية بقائه وهو يجر أذيال جريمته في قتل أكثر من 13 ألف إنسانا بريئا. كان نصرا على قبور الأطفال.