ألوان شريف كينو تصرخ بأن الأرض ليست بخير
للمرة الثانية أحضر نشاطاً فنياً لشريف كينو في ماردين القديمة، كانت الأولى قبل عدة سنوات حين قدم معرضاً فنياً كاملاً عن دونكيشوت وصديقه سانتشو، عن حكاياته بخاتماتها المفتوحة على الآفاق والتاريخ والإنسان، بإسقاطات معاصرة تحملنا على أكتافنا، ونطوف بها أنحاء الزمن بكل أفواجه وأمواجه، والثانية قبل عدة أيام حين قدم معرضاً فردياً بعنوان "بارك/الحديقة" ما بين 31 مايو/ايار 2022 و5 حزيران/يونيو 2022 في بيت قديم من بيوت ماردين العريقة، بيت يفوح منه عبق الماضي وروحه، وبرودة المكان ونفس الأقدمين، معرضاً بنكهة شريفية خالصة، وبعدد قليل من الأعمال لم تتجاوز عدد أصابع اليدين.
وأقيم المعرض في تاريخ معناه عند كينو، فهذا اليوم يصادف ذكرى إحياء الدفاع عن الطبيعة والحفاظ على البيئة التي تلوثت إلى درجة أنها لم تعد تحتمل، ولم تعد صالحة للعيش، فيد الإنسان كأشرس المخلوقات على الأرض حسب تعبير المعلم فاتح المدرس لم تترك ما هو صالح ونقي إلا ولوثته، إن كانت بأدواتها التقليدية كغزو الإسمنت للحقول الخضراء، وإقتلاع الأخضر من المساحات، أو إغراق البحار والمحيطات وجروب اليابسة بالنفايات السامة، القاتلة للبشر والشجر والحجر، ولتأتي الحروب الكثيرة لتجرف ما تبقى من الروح وجمالها، ولعل هذا ملخص معرض كينو الأخير، والعنوان يقول ذلك وأكثر، فجلّ أعماله كانت تحوم على إظهار رئة الجو المصابة لا بالتلوث فحسب بل بالسرطان وتلك الدرنات المميتة للخلايا الحية فيها، هي رسالة يرسمها كينو ويرسلها بألوانه وعبر فضاءاته إلى الإنسان بأن خسارته للبيئة هي خسارته لنفسه وبالتالي خسارته لمبرر وجوده أصلاً، واصفاً في حركات بطيئة، وبألوان تؤخز العمق الإنساني وتوقظ كل ما هو نائم فيه، فاللعبة يجب أن تنتهي وإلا سننتهي نحن الشبيهين بالله، ورثته في هذه الأرض التي لم نستطع الحفاظ عليها وعلى هذا الكرم الإلهي، لم نشاركه في بناء جنتنا التي وعدنا بالسير إليها، بل تحولنا إلى معامل لا تنتج إلا الخراب والدمار، فالبيئة الملوثة تنجب إنساناً ملوثاً، والانسان الملوث لا يمكن أن تكون بيئته إلا ملوثة، ومسمومة.
حين عنون كينو معرضه هذا بإسم Bark وتعني بالتركية الحديقة فهو كان يدرك بأنه يطلق صرخة ستشرع في البحث عن الفأس لترميه بعيداً، مؤسساً لدعوة مفتوحة للآخر بأن بناء الإنسان يبدأ من هنا، زرع الحب والأشجار والحفاظ عليها هي التي تجمل الطبيعة والحياة والإنسان معاً، مؤسساً لفكرة أن نفس البشرية النقية تنبع من بيئة نقية، ومن مناخ نقي، وماء نقي والعكس قد يكون صحيحاً أيضاً، فالطبيعة والإنسان توأمان على كل منهما أن يبحث عن الجميل لدى الآخر وإطلاقه بكل جرأة، فكل منهما يحمل من الجمال ما يغرق السموات التسعة لولا غرور الإنسان ووحشيته وتخليه عن عقله وأحاسيسه وحبه وإنسانيته حتى بات مجرماً، مدمراً لذاته وللطبيعة أيضاً حتى بحّت الحناجر من التهديد والعويل والصراخ.
أحد عشر عملاً هو بالضبط عدد أعماله في هذا المعرض، أحد عشر عملاً تزين قناطر وجدران هذا البيت المارديني الجميل جداً، أحد عشر عملاً لكن بمئات الأفكار والدلالات التي تناهض التصحر وترفضها ليس أولها حين يكون الحيوان أكثر حرصاً من الإنسان بالحفاظ على الأرض ورئته "الفيل حين يسند شجرة يمنعها من السقوط والإقتلاع، وليس آخرها حين يشير بلغة مباشرة بأن الأشجار كإحدى أهم أدوات الحفاظ على سلامة الأرض باتت على النقالة وها هو كينو يعلق السيروم لها كإشارة إلى إيقاظ الإنسان وصحصحته بأن الحياة في خطر طالما الأشجار والطبيعة ومجمل أدواتها في خطر، هي صرخة أخرى للإنسان بأنه خلق كي يجمل الحياة لا العكس، عليه أن يكتفي ويغسل يديه من الخراب والقتل والتدمير التي لم تعد موجودة عند الكائنات الأخرى، وحده الإنسان يتربع على عرش هذا الخراب كله، فبئس وجوده، وبئس حياته، وبئس العقل الذي يتمايز به، وبئس المشاعر التي نامت ولم تستيقظ أبد، ونحن في هذا السياق نقبل أن ندرج مرويات أعماله هذه ومواضيعها في إطار الدفاع عن البيئة ومحاربة تلوثها، وهي تصنيفات تتحدث عن الأمراض التي تفتك في كرتنا الأرضية التي ليست لنا إلاها، وما يسرع في دمارها والسير بها بعيداً عن الإنسان الذي وحده، ثم وحده، ثم وحده يتحمل سبب الكارثة البيئية التي تلحق بها.
هي أحد عشراً عملاً، أحد عشر جرساً تقرع ناقوسها معلنة خطورة عدم وجود الإرتباط بين الإنسان وبيئته، خطور عدم الشعور بالإنتماء إليها، ولا يمكن تبسيط ذلك، ولا أفقه، فالواقع لا يمكن أن يبرر كل هذا التلوث، كل هذا التصحر، ومن المنظور نفسه فإن روح الإنسان المحب لأخيه الإنسان هي ذات الروح التي تحب هذه الأرض بجمالها الخلاب، بوفرة الأشجار، وعذوبة المياه، والهواء النقي، فعدم وجود هذا الحب يجعل ما نراه وما نعيشه أمراً طبيعياً كنتاج لذلك، فكينو يختصر الطريق على متلقيه، ولا يخبره بنصف الحقيقة، بل بالحقيقة مكتملة مهما كانت قاسية ومرة، ويطلق صرخاته، وردات فعله مؤكداً دوافعه بمكوناتها التي تبدأ من حركة الواقع المتغير في سعيه إلى النهوض بصحوة مقترنة بالوعي والحب علها تبني الإنسان، حينها، أقول حينها قد يعي بأن الأرض تمضي نحو الخراب الذي قد لا يمكن إعادتها، إعادة الروح لها إلا بالحفاظ عليها حرصاً على الواجب، واجبنا نحوها، ورعايتها حتى تغدو أجمل، فقيل كثيراً : بأن الحفاظ على بيئة نظيفة، نقية هو مقياس لرقي ثقافة الأمم وتقدمها، ودليل سمو على حضارتها، وهي الورقة البالغة الأهمية كإشارات موجزة بإمكاناتها المختلفة التي تظهر محتوى الإبداع إلى حد كبير، وتظهر قيمه دون أي إجتزاء بما فيها الأشياء البسيطة جداً.
كينو يحيل على بعض الظواهر التي باتت تمس الأرض وكينونها، تمس الإنسان ووجوده، ويفسرها بريشه وألوانه على النحو الذي يمكنه من الإحتجاج عليها، ومواجهاتها، فالحكاية يجب أن تروى كل من مكانه ومن مسؤوليته، والأمر خطير يهدد الأرض بكل تفاصيلها وجزئياتها، فهو يصيغ المدارات وفق مقتضياتها، وفق رؤاه وعلاقتها بالمفارقات التي تحدث، مؤكداً أن السراج يجب أن يشعلها الجميع، ويحملها الجميع علها تبدد عن أجفانهم تلك الغشاوة التي بدأت تزداد، إذا لم ندركها فنحن وأرضنا عمياً سنكون، بل موتى سنكون، فعلى إثر هذه الهزات الكارثية لبيئتنا، لأرضنا، لإنساننا، سنمضي جميعاً إلى الفناء، فالإشارات وحدها لا تكفي، والتظاهر وحده لا يكفي، وريش كينو وحدها لا تكفي، وصرخته هذه لا تكفي، لا بد من المشاركة معاً، من من وحدة الصرخة إلى وحدة الفعل.