ريما الزعبي تتسامى في استحضار سياقاتها

الفنانة تخلق في أعمالها التشكيلية عوالم لونية تنبض بالحياة والروح، متجاوزة حدود اللوحة إلى فضاءات التأويل والمشاعر وتمزج بوعي بين المعرفة الجمالية والانفعالات الحسية فتُنتج سرديات بصرية مفعمة بالدهشة والرمز حيث لا ينفصل اللون عن الإنسان ولا الحواف عن المركز.

ريما الزعبي والألوان، من منهما ترسم الأخرى، من تلون من، ومن تحاور من، من تسرد قصة من، هذه التساؤلات المفتوحة على السموات، والحافلة بالإمتدادات المنطلقة من البعد التأويلي كبوابة تفتح لها نحو أكثر من أفق، والإرساليات التي ستشكل رؤيتها الفنية فيما بعد، تلك الإمتدادات والإرساليات التي ستولد فيك وتسافر نحو الإنعتاق المسكون بعذابات الروح ما إن تلامس نظراتك سطوح أعمال التشكيلية ريما الزعبي، حيث تتدفق الألوان بصمت حتى تتحول إلى لغة مقروءة ومسموعة ومرئيّة في الآن ذاته، لغة تحيط بها كل مفردات التلامس لحياة الفنان وبالتالي لحياة الإنسان على نحو عام، فتمدد البقع اللونية في فراغات السطوح وفي أنحاء اللوحة وكأنها تحمِّلها قلقها وتبثها بسكينة فيها من التوتر أيضاً ما يمكنها من إسقاط هيمنة مفاهيم تقليدية في صناعة اللوحة.

فهي منذ البدء تقف في عملها ولا تبارحه، تتنفس فيه، وتعشق فيه، وتقيم فيه، عملها مسكنها ووطنها، ولهذا تكون لهفتها في إزدياد وعلى نحو مستديم لكسر المسافات بينها وبين زحاماتها، أقصد تلك الحشود اللونية الغنية بالدهشة والإعجاب، والتي ستجعل هندسة فضاءاتها تخفي في ثناياها مفاتيح الإنتاج والتأويل معاً، ومن خلال إختيار مرادفات لحالات فيها تتحقق كل ما يحيلها ضمن دوائر النسق الجمالي لمهارات ذي طابع حركي مكاني تكشف عن خطاب مرتبط بإيماءات قادرة على ترتيب العلاقات الجمالية، وقادرة على إلتقاط زوايا فيها تركز على الغرابة والدهشة، ومنها ترصد المدن القديمة بعبقها والوجوه بتعبيريتها، والتاريخ ببؤسه، ومنفتحة على نصوص سردية بصرية مليئة بالدلالات، تشرع في الهواجس والمشاعر وهذا ما يبعثها على العمل بإرسال النبض في تراكمات الحياة وإنكساراتها الكثيرة، فهي تتربص بحيوية مرصودة مع اللون والقماشة تلك الأمكنة الحاملة لأنفاس تثير الإنفعالات المنفلتة من ساحات التكوين وإضاءاتها، وتلك الوجوه القريبة من خرائط البلاد والتي تسرد حريقها وأحلامها الجامحة .

ريما الزعبي خريجة كلية الفنون الجميلة، وماجستير هندسة عمارة من موسكو (1993)، وقد يكون لذلك السبب الأهم في توجهها نحو المدينة القديمة وتركيزها على مفرداتها الموحية بالإنسان وبحضوره الموغل في العمق، بحاراتها المفرطة في البساطة وبأزقتها المتآلفة نبضاً، والمتلحفة شوقاً، والمباغتة مسعى، فكل التشكيلات اللونية عندها تترك شظاياها في إحتدام الضوء حتى تبدو لوحتها وكأنها تحتفي بزهوها الملتف بحواف المدى، فهي وبإحساس متزايد تملك سر التفاعل بين ثمرات المعرفة الجمالية وبين مسوغات تأملاتها، كما تملك سر الإنتقال بين الوجوه المختلفة، فثمة علاقة رمزية أو صامتة بينها وبينهم، وثمة تفاعل إنبعاثي وإنفعالي بينهما، فالزعبي تتسامى في إستحضار سياقاتها، وبألوان ترتبط ببعضها داخل السياق ذاته أولاً وترتبط بأشكالها في حدود ما من التقابلات / السكون - الحركة، الصمت - الكلام، الشاقولي - الأفقي، .... إلخ، وتملك الإحساس العميق بالأشياء، بالطبيعة وبالمدن القديمة، وبالوجوه، وبالمرأة، بالحب وبالإنسان والحياة على نحو عام، فإنها ترسم ما يؤثر في مدركات حواسها أولاً، وما تستغرقه في أحاسيسها المتدفقة ثانياً، وحيناً تتآلف مع رسوماتها، وهذا ما تبقي رؤيتها غير حيادية مهما كانت القضايا المعالجة معقدة، فهي تتعامل مع البياض وكأنها في حلم دائم، ولهذا يأتي إهتمامها بعملها كلها، لا تركز على قسم وتهمل آخر، فالحواف كالمركز تعمل عليه بإنفتاح وقد تزرع بؤرها في الحواف ذاتها على عكس الكثيرين، وبذلك تشحن عملها قطعة قطعة، قسم قسم، زاوية زاوية، تشحنها بما تحمله في ذاكرتها أولاً ثم بالذي قد تلتقطه عيناها وأناملها، ومن هنا ندرك أن الزعبي لا تضيع زمنها ولا ألوانها، ولا خطوطها، فهي تفهم معنى التشكيل والتكوين جيداً، ومعنى الإحساس الدافىء الذي يسري في روحها وفي لوحتها، الإحساس الحار الممزوج بتداعيات مشهدية تشي بمتعة الإنجاز والخلق، وبهدوء تدفقات الإشتعال .

الزعبي تملك خاصية تصعيد اللون لإرتياد غابات لونية جديدة، غابات فيها تتقارب وقائعها الخاصة أو تتباعد، تتآلف أو تتناقض، فوعاء تولداتها تتغير محتوياته تبعاً لمعطيات العمل ومعاييره، فهي تأخذ اللامنهج أو المنهج المتعدد كما يقال منهجاً لها وبه تقدم صيغها البصرية وتحولها إلى ما يشبه دعوة إلى تغيير نظرتنا إلى المفاهيم الدارجة والتي تنطوي على مقولات مسبقة الصنع، وإحداث تغييرات في إدراكنا للمعطيات المألوفة وفق مكونات وعناصر جديدة .