أمجد الجنابي ومتعة التنقل الممنهج والترحال المدروس

المفكر العراقي يوضح أن الاستشراق هو دراسة غير المسلمين لحضارة الشرق عموما وللإسلام خصوصا.
السينما رافد مهم من روافد الثقافة؛ والغريب أننا ننظر لها على أنها مكان لتضييع الأوقات وللعيش في الأوهام
السينما أداة مهمة جدا في تشكيل الوعي المجتمعي وفي توجيه السلوك العملي

رائع هو الإبداع والتألق ولاريب، إلا أن الأروع منه هو ذلك التنقل الممنهج والترحال المدروس بين مجال أكاديمي وآخر من دون تقاطع ولا تضاد بينهما ولا انقطاع حتى ليعضد أولها آخرها ويكمله بمهنية وإحترافية عالية، ولاشك أن من جاب بساتين الثقافة وحلّق في سماء المعرفة بعصر التصحر العلمي والجدب المعرفي كنحلة جوالة ليرتشف من رحيق هذه الزهور وتلك حري بتسليط الضوء على سيرته ومؤلفاته ومجمل أعماله وإن كان معروفا لشريحة كبيرة من المتابعين، ومحطتنا هذه ستكون مع مبدع عراقي له في كل مجال بصمة، إنه الدكتور أمجد يونس عبد مرزوك الجنابي، الذي أبدى إستعداده للحوار بصدر رحب وابتسامة عراقية جميلة لا تكاد تفارق محياه وبادرناه بالسؤال الأول وإن كان مطولا :بما أنك متخصص بالدراسات الإستشراقية وحامل لشهادة الدكتوراه فيها، وبما أن لك كتابا طبع مرتين في غضون ثلاثة أشهر لأهميته القصوى بعنوان "آثار الاستشراق الألماني في الدراسات القرآنية" أرجو أن تحدثنا قليلا عن دور الاستشراق الأوروبي عامة والألماني خاصة في حرف بوصلة الحقائق وتعزيز كراهية الإسلام والمسلمين وترسيخ نظرية "الإسلام فوبيا".
فأجاب: الاستشراق هو دراسة غير المسلمين لحضارة الشرق عموما وللإسلام خصوصا؛ وبدأ مع الإرهاصات الأولى للحروب الصليبية من أجل التعرف على الأرض الجديدة (الشام وفلسطين ومصر) وكان لا بد لزاما التعرف على ثقافة ودين تلك البلدان حتى أن أقدم ترجمة لمعاني القرآن الكريم تعود إلى عام 1150 تقريبا.

ربما كانت أزمة كورونا فرصة سانحة للولوج إلى عالم التعليم الرقمي وقد لاحظت بالفعل تقدما ولو بطيئا في استثمار التكنلوجيا للتعليم عن بعد

والحركة الاستشراقية تاريخيا كانت وما زالت ترعاها مؤسستان منفصلتان عن بعضهما البعض متفقتان في أهدافهما العامة؛ المؤسسة الأولى؛ هي الكنسية والتي يديرها ويوجهها رجال الدين من المسيحيين وقد استشرق الكثير منهم وكتبوا كتابات حول الاسلام وحاضروا ونشروا مقالات عبّروا فيها عن رؤيتهم للإسلام وقد شاب نظراتهم وكلامهم الكثير من المغالطات والشبهات التي أثاروها هنا وهناك.
المؤسسة الثانية هي الأكاديمية ويبرز فيها دور أساتذة الجامعات والباحثين حيث أنشئت مراكز بحوث وأقسام علمية في الكليات تبحث في الحضارة الاسلامية والشرقية عموما وقد نحى المستشرقون فيها منحى علميا موضوعيا بحسب ما يدعونه لكن الواقع يشهد بعكس ذلك وان كانوا أقل ضررا وأخف تهجما على الاسلام.
كلا المؤسستين تسير وفق توجهات المؤسسة السياسية الغربية وهي المحرك لهما في كثير من المحطات.
بالنسبة للاستشراق الألماني فالأمر مختلف قليلا حيث يعده الباحثون في الاستشراق منصفا وموضوعيا مع أنني وآخرين نتحفظ على هذا التوصيف المتفائل لسببين رئيسين؛ الأول أنني وفي أثناء دراستي اكتشفت أن الألمان لا يجاهرون بالعداء وإنما يخفونه وراء عبارات مهذبة ومن خلال دس الشبهات بشكل أذكى من غيرهم، والسبب الثاني أن كل مستشرق يعبر عن نفسه ورأيه فهم ليسوا سواء أبدا، وكثير من الأساتذة الألمان العاملين في هذا المجال تجد عندهم الاحترام والتقدير للإسلام والمسلمين بدرجات متفاوتة وذلك واضح من خلال كتاباتهم.
أما عن مصطلح "الاسلام فوبيا" فهو بالـتأكيد تعكز أصحابه على كتابات وبحوث المستشرقين الذين نبشوا التراث الإسلامي وانتقوا منه ما يعزز هذه النظرية وقد صرفت لهم أموال وبذلت جهود كبيرة في سبيل ترسيخ هذا المفهوم عند الأوربيين والغربيين عموما لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
اليوم نلاحظ انحسار هذا المفهوم بسبب الجهود التي بذلت من الدعاة والعاملين في المراكز الإسلامية الغربية من المسلمين ولا سيما مع أجواء الحرية المكفولة عنهم في تلك البلاد. 
وعن الأبعاد السينمائية ودور الفن السابع في قلب الحقائق، يرى الجنابي أن السينما رافد مهم من روافد الثقافة؛ والغريب أننا ننظر لها على أنها مكان لتضييع الأوقات وللعيش في الأوهام، بينما في الغرب عموما يتعاملون مع ما يعرض فيها من أفلام بصفته حقائق تاريخية وتغذية معرفية في الكثير من المجالات، ويكفي أن تعمل استبيانا بسيطا لتكتشف أن الشاب الغربي قد شاهد مئات الأفلام، ويعد ذلك جزءا لا يتجزأ من حياته وهو ما يفسر لنا سرعة انتشار الصورة النمطية عن العرب والمسلمين في أوروبا والأميركيتين.
ويضيف: السينما أداة مهمة جدا في تشكيل الوعي المجتمعي وفي توجيه السلوك العملي، ولمن يجهل أهميتها يكفي أن يطلع على الملايين التي تصرف من أجل فيلم واحد تاريخي أو سياسي أو حربي ليعرف حجم الإمكانات التي تحشد لترسيخ الأفكار عن طريق الأفلام وصناعتها جنبا إلى جنب مع مراد الحكومات الغربية وفي هذا المقام يطول الكلام.
ويرى أمجد الجنابي أن بداية النهوض من واقعنا تكون بالاهتمام بشكل موضوعي واحترافي بما عند الآخرين من خير والسينما وما فيها من أفلام قد تتعدى نسبتها الـ 15% تصب في تعزيز الثقافة ونشر الوعي ويجب ألا تهمل مع ضرورة تحليل وتفكيك بعض المشاهد في الأفلام من أجل فلترة واعية لما يقدم عبر الشاشة.
وعن برنامجه الرمضاني "ملتقى القلوب" في نسخته السادسة قال الجنابي: الحمد لله أولا وآخرا لكون البرنامج قد عرض على أكثر من قناة ومنصة إعلامية وهو بشكل عام أخذ حضوره في زخم المحتوى المتعدد والمنوع الذي عرض في رمضان.
وأكد أن للبرنامج رؤية وهو يسعى لتأكيدها في كل موسم وهي أن المتصدرين للشأن الوعظي في العراق ما زالوا موجودين وفاعلين وهم يلتقون سنويا للحوار وانتقاء أطيب ما عندهم من كلام ويقدمونه في صورة جميلة وفي أجواء هادئة وحوارات بناءة.

والبرنامج من أهدافه المتوسطة تشجيع طلبة العلم الشرعي على الظهور وتقديم ما لديهم للناس عبر منصات الإعلام وخارج جدران مساجدهم، فهي مهما كانت تبقى محدودة الـتأثير لكنهم بخروجهم في البرنامج يحققون مساحات أوسع ويعرضون ما لديهم من خير لجمهور آخر غير جمهور المسجد المحلي.
البرنامج نعد له ونحضر له ونصوره في بحر أربعة أشهر تقريبا حيث ننتقي المشايخ والدعاة والأساتذة الذين سيشاركون في البرنامج ونرسل لهم ورقة إعداد البرنامج والتي قد تصل أحيانا إلى عشر صفحات أشرح فيها الفقرات المتنوعة التي سيقومون بالتحضير لها وتعد هذه الورقة هي خارطة البرنامج وما نقدمه فيه أثناء الموسم الواحد والذي تبلغ حلقاته 30 حلقة ثم نختار مكان التصوير، وهو غالبا في إحدى المحافظات التركية، فمرة صورناه في اسطنبول وأخرى في إسبارطا وثالثة في مرعش وهكذا، ونحدد أيام التصوير وهي بحدود عشرة أيام ثم نذهب وننجز المهمة ويعود الكادر لتبدأ مهمة المخرج والمونتير وهي تستغرق منهما شهرين تقريبا لإنجاز كل الحلقات لكثرة الفقرات في كل حلقة.
ويرى المفكر العراقي أن البرامج الإذاعية أنيسة لمن يكثر التنقل في سيارته أو لركاب السيارات بشكل عام، وهي تسهم إلى حد كبير في نشر الوعي وذلك لتركيز السامع على ما يقال دون تشتيت لأن الصورة والمؤثرات قد تبهره فلا ينتبه إلى المحتوى بينما البرنامج الإذاعي ليس له من محتوى غير الكلام فيلتقط السامع الفكرة بشكل أدق وأكثر انتباها.
أما عن فن  الرواية فيرى الجنابي أنه فن لا يمل ونص لا يستهلك، والرواية مطلوبة على كل الأصعدة ومن جميع الفئات لا سيما الشباب. ومقارنة بسيطة بين الكتاب المؤلف بنص أكاديمي وبين الكتاب المؤلف بنص روائي تكتشف أن الأول إن قرأه عشرات، فالثاني يقرأه مئات وربما ألوف.
فكرت كثيرا في النص الأدبي الأول "توأم وعواصم" واستغرق مني قرابة السنة لإنهائه، وسلكت فيه مسلكا أعده من المسالك الأدبية الجديرة بالاهتمام، وهي أنني جمعت في هذه الرواية والروايات التي بعدها نقطتين رئيستين هما؛ المتعة والفائدة.
وارى أن الروائي الناجح هو الذي يقدم معلومات ثقافية وتوعوية دقيقة من خلال قالب أدبي ماتع.
وأضاف: الرواية ليست بديلا عن الكتاب بصورته النمطية، وإنما هي شكل من الكتابة أكثر قبولا للقارىء، وأكثر استجابة لمتطلبات العصر، وأنا شخصيا قد شرعت بقراءة الروايات من وقت مبكر جدا، وربما مر علي ربع قرن وأنا أقرأ وما زلت، فأصبحت الروايات الرصينة التي تجمع ما بين المتعة والفائدة أحد الروافد المهمة في تشكيل وعيي وتنظيم معرفتي.
ولأضرب للقراء مثالا بسيطا؛ إذ أن كل قارىء للروايات يتعرف من خلالها على المجتمع الذي تتناوله الرواية إضافة إلى تعرفه على الأنماط الاجتماعية والنفسية لأبطال الرواية، فالنص الروائي يقدم لك المجتمع بكل تقلباته وصراعاته في شكل يعكس لك المجتمع الحقيقي على الأرض في أي بلد تتناوله الرواية.
رواياتي الأربع تنوعت في الزمان والمكان والشخصيات والمواضيع فمثلا رواية "توأم وعواصم" كانت اجتماعية تدور أحداثها في بحر عشرين سنة في ثلاثة عواصم، بينما رواية "الكأس الشاهد" تدور أحداثها في مطعم شعبي في زمن عشرين ساعة فقط، وهي رواية رمزية تروى على لسان كأس على منضدة تشهد الأحاديث العفوية للزبائن وهم يتناولون الطعام!  

Literary dialogue
كل مستشرق يعبر عن نفسه ورأيه 

أما رواية "الرئيس الخادم" فسياسية تتناول تجربة لسياسي إسلامي في إدارة منصب رئاسي، بينما الرواية الرابعة فهي تاريخية تتناول قصة النبي يوسف، على لسان أحد صاحبيه في السجن وهو "ساقي الملك".
أتمنى أن ترى الروايات الثلاث النور قريبا.
وعن الأزمة العالمية التي يمر بها المجتمع الدولي الآن، وهي أزمة كورونا أوضح د. أمجد الجنابي: ربما كانت أزمة كورونا فرصة سانحة للولوج إلى عالم التعليم الرقمي وقد لاحظت بالفعل تقدما ولو بطيئا في استثمار التكنلوجيا للتعليم عن بعد وربما ينقصها في هذه المرحلة المنهجية الصحيحة والدعم الفني، لكن من سار على الدرب وصل كما يقولون، وأنا متفائل بكون هذه المرحلة رغم صعوبتها إلا أنها ستصنع فكرة استثمار التكنولوجيا وقد تكون في المدى المنظور جزءا رئيسا في العمل الأكاديمي وهذا ما نطمح له.
ومن أزمة كورونا إلى مستقبل الصحافة العراقية المكتوبة والمقروءة "الورقية" وهل هي في طريقنها الى الاندثار بغياب قانون فاعل يحمي الصحفيين ويضمن حقوقهم، قال الجنابي: الصحافة المقروءة لا سبيل لاندثارها بأي شكل من الأشكال لأنها من صميم العمل الإعلامي لكنها قد تأخذ شكل النشر الإلكتروني لا الورقي، وربما يصار إلى طريقة في النشر تتناسب والمواقع الإلكترونية أو مواقع التواصل والمنصات الأخرى. كما أن الحرية وحقوق الصحفيين يجب أن تكون في أولويات الحكومة والنقابات المعنية وذلك لارتباطها المباشر بالثقافة والوعي الوطني والمجتمعي، ونأمل أن نخرج من فوضى العمل إلى نظامه المكفولة فيه كل مقومات الصحافة المقروءة. بالممارسة وجدت أن بعضا من الشباب يميل إلى الصحافة المقروءة، ولا يحبذ العمل في المرئي والمسموع، ومن هنا كان هذا المجال واعدا لهم، وعلينا جميعا أن نسعى لتشجيعهم والأخذ بايديهم إلى المضي في تطوير مهاراتهم ونشر مقالاتهم وتشجيعهم. فكل كلمة حق تكتب وتنشر هي بمثابة لبنة توضع في بناء حضارتنا واستقرار بلداننا، وتراثنا عامر بنصوص تمجد الكلمة في وجه الظالم وهي النور الذي ينير الطريق للأجيال التي تلحق.