أم كلثوم.. والسينما

45 عامًا على رحيل صاحبة أنصع سمعة في تاريخ الغناء العربي.
عبدالحليم حافظ: أم كلثوم معجزة لم ولن تتكرر
نجيب محفوظ وصف في برنامج إذاعي، أم كلثوم بأنها "نعمة الدنيا"

في الثالث من فبراير/شباط عام 1975 رحلت أم كلثوم عن دنيانا، تلك السيدة الفذة التي قال عنها الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب عقب وفاتها، مع سمير صبري في برنامج النادي الدولي: "أم كلثوم... صاحبة الصوت الذي لا يعرف المستحيل"، وأعلن عبدالحليم حافظ أيضا مع طارق حبيب في برنامج أوتوجراف: "أم كلثوم... معجزة لم ولن تتكرر".
ترى.. كيف تعاملت السينما المصرية مع هذه الموهبة الخارقة في عالم الغناء؟ وماذا بقي من تراثها السينمائي؟ لكن قبل أن نجيب علينا التأكيد على أنه لا يمكن فهم معجزة أم كلثوم ونحن نستعيد ذكراها العطرة بمناسبة مرور 45 عامًا على رحيلها إلا في إطار الرؤية الشاملة لنهضة مصر بعد ثورة 1919 من ناحية، كما لا نستطيع أن نفسر هذه الظاهرة الخرافية إلا حين ندقق النظر في الطبيعة الشخصية للفلاحة المصرية التي سُوّيت من عزة وكفاح وكبرياء من ناحية أخرى.
الميلاد الأول
في قرية منسية على الخريطة يقال لها "طماي الزهايرة" بمحافظة الدقهلية ولدت أم كلثوم في 30 ديسمبر/كانون الأول سنة 1902 على الأغلب، لأن المؤرخين والنقاد تحيروا في تحديد سنة مولدها لأنها أخفت عمرها الحقيقي – ربما خوفا من الحسد – كما فعل محمد عبدالوهاب. لكن الناقد والمؤرخ اللبناني إلياس سحاب توصل إلى هذا التاريخ بعد سلسلة من الحسابات والاستنتاجات متكئا على حوارها الطويل مع الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها "أم كلثوم وعصر من الفن". 
لعلك تعرف أنها بدأت حياتها الغنائية بالإنشاد الديني مع والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، وأنها ظلت تجوب القرى والمراكز المحيطة ببلدتها تنشد وترتل، حتى استجاب أبوها إلى إلحاح المخلصين في ضرورة الحضور إلى القاهرة والاستقرار بها حتى تنال ابنته المجد الذي ينتظرها، وهو ما كان بالفعل في عام 1923، أي بعد ثورة 1919 بأربع سنوات فقط. وفي ظني لولا هذه الثورة المدهشة ما تركت أم كلثوم قريتها، ولا كنا سمعنا بها.. لماذا؟

ما الذي بقي من هذه الأفلام الستة؟ إنها بلا جدال الأغنيات الفاتنة التي ترنمت بها في تلك الأفلام، فقد شدت أم كلثوم بأكثر من أربعين أغنية قصيرة، كثير منها لا يزال يرن في أذان الملايين حتى الآن  

لأن هذه الثورة المذهلة هي التي انتشلت المصريين من كهوف العصور الوسطى إلى سماوات العصر الحديث، ذلك أنها منحت المصريين للمرة الأولى إحساسهم بوطنهم وبعزته، وأنهم قادرون على مقاومة المستعمر ومطاردة المغتصب، وأنهم يمتلكون طاقة جبارة لتحقيق أحلامهم المؤجلة وأمنياتهم الموؤدة.
كشف حساب ثورة 19
تعال نطل سريعا على أهم منجزات هذه الثورة التي تزعمها سعد زغلول لندرك أنها أحد الأسرار الكبرى وراء عظمة أم كلثوم وتفردها. خذ عندك: تعزيز الشعور الوطني/ تلاحم الشعب في كتلة واحدة مسلمين ومسيحيين/ تحطيم المنظومة المتخلفة التي تقضي باحتقار المرأة وسجنها داخل البيت مع خروج أول مظاهرة للمرأة تطالب بالاستقلال/ تأسيس بنك مصر برئاسة طلعت حرب، وهو أول بنك برأسمال مصري 1920/ حرية صحافة غير مسبوقة/ صدور أول دستور مصري/ أول بث للإذاعة المحلية عام 1923/ افتتاح فرقة رمسيس لصاحبها يوسف وهبي 1923 / إنتاج أول فيلم مصري واسمه "في بلاد توت عنخ آمون" 1923/ نهضة موسيقية مذهلة على يد سيد درويش الذي رحل في 1923/ إجراء أول انتخابات برلمانية غير مزورة عام 1924 (سقط فيها وزير الداخلية نفسه يحيى باشا إبراهيم الذي أشرف على إجرائها)/ تحويل الجامعة المصرية الأهلية إلى جامعة رسمية تتبع وزارة المعارف وتغيير اسمها إلى جامعة فؤاد الأول – جامعة القاهرة الآن – عام 1925/ إقامة تمثال نهضة مصر بوصفه تعبيرًا عن حلم الشعب في الانعتاق والتطور عام 1928 إلى آخر هذه المنجزات الباذخة.
هبطت أم كلثوم أرض القاهرة في عام 1923 لتقتحم عالم الغناء بقوة لا مثيل لها، بعد أن تهيأت أجواء العاصمة المصرية لاستقبالها، (بلغ عدد المصريين في ذلك العام نحو 13 مليون نصف مليون نسمة وفقا لما ذكره جمال حمدان في موسوعته العظيمة "شخصية مصر"). على الفور التف حول الفتاة الريفية ودعم موهبتها الفذة كوكبة من الرجال المتميزين، أو كما يقول إلياس سحاب في كتابه "أم كلثوم/ الجزء الخاص بسيرتها" من الموسوعة التي أصدرها مع شقيقه فيكتور: "إن ثلاث شخصيات قاهرية وضعها القدر في طريق أم كلثوم لتعلب أدورًا متكاملة، ساهمت كل شخصية منها بنسبة ما في إيجاد القاعدة الصلبة التي انطلقت منها أم كلثوم في طريق التحول من منشدة ابتهالات دينية في أرياف الوجه البحري إلى سيدة الغناء العربي النسائي الكلاسيكي على امتداد القرن العشرين. هذه الشخصيات الثلاث هي على التوالي الشيخ مصطفى عبدالرازق والشيخ أبوالعلا محمد والشاعر أحمد رامي".
لقد لعب هؤلاء الرجال الثلاثة أدوارا بالغة الأهمية في صقل موهبة الفتاة الريفية وترسيخ إحساسها بذاتها وموهبتها، علاوة على الترويج لها في المحافل والصالونات الاجتماعية المختلفة لما يتمتعون به من حضور قوي في القاهرة. ولعل انتصار الشيخ مصطفى عبدالرازق (1885 - 1947) لهذا الصوت الوافد وانحيازه لأم كلثوم يعد أيضا من تجليات ثورة 1919، ذلك أن هذا الشيخ الجليل كان أزهري النشأة والتكوين الفكري، وهي نشأة محافظة لا ريب، لكنه امتلك أيضا عقلا مسنيرًا عندما أكمل تعليمه في باريس.
أم كلثوم على الشاشة
يقول محمد عبدالوهاب في مقابلة إذاعية عن صوت أم كلثوم، وهو من هو، "إنه صوت نادر يتمتع بمزايا عديدة، تكفي كل مزية منها لتجعل صاحبتها مطربة عظيمة، فكيف إذا اجتمعت هذه المزايا لصوت واحد؟" كما جاء في الكتاب الذي سبقت الإشارة إليه.
والسؤال.. هل نجحت السينما في استثمار هذا الصوت لتقديم أفلام ناجحة ومهمة؟ الحق إن السينما في مصر كانت تحبو حين اقتحمتها كوكب الشرق، فأول أفلامها "وداد" للمخرج الألماني فريتز كرامب عرض في عام 1936، أي بعد أن نطقت السينما المصرية بأربع سنوات فقط "أول فيلم مصري ناطق كان أولاد الذوات عرض في 1932". لذا انطبعت أفلام كوكب الشرق الستة بمنطق السينما في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، هذا المنطق كان ينهض على المبالغة في القصة والزخرفة في الأداء الصوتي، والنزعة الدرامية الفجة التي تعتمد على المصادفات غير المنطقية، كما أن صناع أفلامها لجأوا إلى التاريخ ليستلهموا منه القصص التي تصلح لها، ففيلم "دنانير" 1940 يرصد حكاية مطربة من العصر العباسي، وفيلم "سلامة" 1945 نحا النحو نفسه، ووداد قبلهما تحدث عن جارية حظيت بصوت رائع عاشت في الفترة المملوكية بمصر. 
بقيت أفلام (نشيد الأمل 1937)، (عايدة 1942) و(فاطمة 1947)، وكلها تدور في العصر الحديث. صحيح أن فيلمها الأخير كان أكثر نضجًا من حيث بساطة الأداء وسرعة الإيقاع ومتانة الحبكة وسيولة الأحداث، ومنطقيتها نسبيًا، لكن ذلك يعود في المقام الأول إلى التطور الذي لحق بصناعة السينما في وقت إنجاز الفيلم، فضلا عن أن أم كلثوم نفسها كانت قد اكتسبت قدرًا لا بأس به من مهارة التمثيل بعد كل هذه السنوات التي أمضتها داخل البلاتوه.

تحف غنائية خالدة
ما الذي بقي من هذه الأفلام الستة؟ إنها بلا جدال الأغنيات الفاتنة التي ترنمت بها في تلك الأفلام، فقد شدت أم كلثوم بأكثر من أربعين أغنية قصيرة (بسبب ضرورات السينما)، كثير منها لا يزال يرن في أذان الملايين حتى الآن ويشجيهم ويطربهم، ومن ينسى أعمالا مثل (بكرة السفر/ أفرح يا قلبي/ على بلد المحبوب وديني (بصوت عباس البليدي أولا في فيلم وداد)/ غني لي شوي شوي/ قالوا أحب القس سلامة/ الفوازير - التي لا شبيه لها في تاريخ الغناء العربي كله/ سلام الله على الأغنام/ عن العشاق سألوني/ الورد جميل/ هاقابله بكرة/ ساعة القرب تهنالي مادمت معاك/ ظلموني الناس/ نصرة قوية/ أصون كرامتي). وغير ذلك كثير بطبيعة الحال. لاحظ أن هذه الأغنيات عمرها الآن بين سبعين وثمانين عامًا، وما زلت قادرة على الإمتاع.
نسيت أن أخبرك أن السينما استضافت صوت أم كلثوم فقط مرة أخرى في عام 1963 في فيلم (رابعة العدوية/ إخراج نيازي مصطفى)، حيث قدمت لنا عدة أغنيات بالغة الرقة والعذوبة منها (حانة الأقدار/ الرضا والنور/ أحبك حبين)، لكن المثير حقا أن الأفلام المصرية التي تم إنتاجها منذ انطلاق هذه الصناعة المميزة وحتى الآن تحتفي بأم كلثوم على طريقتها، فمعظم هذه الأفلام تستعين بمقاطع من أغنيات كوكب الشرق تمررها في خلفية المشاهد أو يدندن بها نجم الفيلم، أو يرددها أحد الممثلين بوصفها حكمة، أو يحوّرها مطرب لكنه يحافظ على نغمتها الموسيقية، كما فعل محمد فوزي مع أغنيتها (الآهات)، حيث راح يغني في زفاف أحد أصدقائه (آه.. آه.. يا اللي في المأذون طبيت.. آه.. آه.. يا اللي هاتجرّش في البيت.. آه.. آه) في فيلم (فاطمة وماريكا وراشيل)، وهكذا، تظل أم كلثوم أو صورتها أو طيفها أو صوتها حاضرًا بقوة في العديد من الأفلام المصرية.
المثير للفخر أنني استمعت إلى أم كلثوم في كل البلاد العربية والأجنبية التي أتيح لي زيارتها، فقد سمعتها في مقهى لبناني بلندن عام 2004، وانتشيت مع (أطلالها) في المقهى العربي الوحيد بالعاصمة الكورية سيئول عام 2006، وشملني التيه عندما رنت في أذني موسيقى (أنت عمري) في مطعم بموسكو، وفي باريس تمايلت مع (هلت ليالي القمر) في مقهى مصري، وفي بغداد وبيروت ومسقط ودبي وأبوظبي والكويت وصنعاء والجزائر وتونس سمعتها وجلست على مقاه تحمل اسم أم كلثوم.
قبل ثلاثين عامًا وصف نجيب محفوظ، في برنامج إذاعي، أم كلثوم بأنها "نعمة الدنيا". وكان صائبًا تمامًا.
حقا... نِعْمَ الواصف والموصوف!