أية رواية؟ هو ذا صلب النقاش

واسيني الأعرج محذرا: الرواية العربية تشهد مرحلة كمية كبيرة وخطيرة لأنها تغرق الجيد في الغث.
هل ساعدت الوسائط على انتشار الرواية؟
النقد يشعر بنوع من التعالي على التجارب الجديدة، فلا يلتفت إليها، وينسى كليًّا أن عدم الالتفات إليها لا يلغي حضورها ووجودها
وسائط التواصل الاجتماعي جعلت من الكتابة أمرًا شديد السهولة

في شهادته الأدبية التي اختار لها عنوان "فساد الرواية انفجار الاتصال واضمحلال الجنس" قال الكاتب الجزائري واسيني الأعرج: "السؤال الكبير اليوم يتعلق بوضعية الرواية العربية في ظل وسائل الاتصال الاجتماعي التي أصبحت تحتل المشهد الثقافي والحياتي، هل يجب أن نقف ضد ذلك كله؟ ألا يضعنا هذا في صف الرجعية المعطلة لمكاسب الثورة التكنولوجية التي تجتاح العالم؟ ألا يحولنا موقفنا الرافض إلى مضادين للحداثة في منجزاتها التقنية الجديدة التي تتجاوز معرفتنا؟ 
وأوضح أن المسألة ليست عربية ولكنها مشكلة كونية، أي ما هو الوضع الاعتباري اليوم للنصوص الأدبية التي لا تزال تسير في خط النظام الكلاسيكي التي تربَّت عليه منذ القرن التاسع عشر، بنية وموضوعات ومدارس؟ ألا تبدو كتاباتنا بهذا الموضوعات تقف على حافة الانقراض أمام عصر جارف؟
وأعرب واسيني الأعرج عن سعادته بأن ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي "الرواية في عصر المعلومات" أخذ هذه القضية على عاتقه وتبناها كليًّا ولم يتهرب منها، من خلال محاولة متأكد من أنها ستكون سجالية وصعبة، لكنها المغامرة المعرفية والوجودية التي يجب خوضها. لم تعد الظاهرة ثانوية ليمكن التغاضي عنها، فقد استفلحت وأصبحت جزءًا من حاضرنا الثقافي والأدبي.

الأمر يحتاج إلى توصيف حقيقي للظاهرة وعن قرب، من عتباتها المغرية حتى مضامينها الداخلية 

وقال في جلسة الشهادات الأدبية التي ترأسها الكاتب السعودي يوسف المحيميد: تحتاج الظاهرة الطاغية إلى وقفة فنية تدرس نقديًّا، بعد وضعها في سياقاتها التاريخية والفنية. قد يبدو العنوان المقدم استفزازيًّا لأن كلمة فساد تحيل إلى شيء نتائجه سلبية كليًّا ويقود إلى نتائج وخيمة، فالرواية العربية تعيش وضعًا غير مسبوق، كميًّا ونوعيًّا، وهنا يجب التفريق بين نوعين من النصوص الروائية، نوع يكتب داخل النظام الروائي المتعارف عليه من خلال جهد إبداعي مميز وكبير، ولا تعمل وسائل الاتصال الحديثة إلا دورًا تقنيًّا مرتبطًا بشيوعه السريع بين من يشكِّلون المقروئية الواعية التي يكون أفق انتظارها كبيرًا من ناحية الكتابة لأنها قادمة من تقليد روائي عربي كبير من أقطابه نجيب محفوظ، حنا مينه، عبدالرحمن منيف، وغيرهم. ذائقة مصنعة وفق ثقافتها الروائية التي تتبطًّن جهدًا معرفيًّا وثقافة روائية محصنة. 
وتابع صاحب "وقع الأحذية الخشنة": أما النوع الثاني وهو مدار حديثنا، فهو أدب الماكينة أو الآلة التي تنتجه. صحيح أن وراءه بشرًا يكتبونه، لكنهم يفعلون وفق إملاءات التكنولوجيا الحديثة ولا يهم في النهاية إلا الوصول إلى الجمهور، وكأنهم بصدد نشر بوست صغير، وانتظار عدد اللايكات التي تحسس الكاتب، أو المفترض أنه كاتب أنه أصبح عظيمًا، وعلى الساحة الثقافية أن تتفهم ما يقوم به وتعتبره كبيرًا لأن رهانه في عدد القراء. الأمر صحيح لكنه في الوقت ذاته يحتاج إلى تأمل. 
وأوضح الأعرج أن كثيرا من النصوص بدأت كمادة فيسبوكية لكنها سرعان ما تطورت بسبب المقروئية الكبيرة قبل أن تتحول إلى مسلسل يتابعه القراء، وتصل الغواية إلى سقفها فينشر النص في كتاب يقتنيه القراء أنفسهم الذين يعدون بالآلاف المتبعين، فيصبح النص نجمة المعرض الأدبية، كل الناس يتحدثون عنه. 
ويتساءل: هل هناك خلل ما في طبيعة المقروئية؟ هي نفسها التي رفعت نصًّا عاديًّا مثل "لا تحزن" في معرض القاهرة، أو كتاب "بلحمر" في معرض الجزائر، إلى سدة البيست سيلر؟ وهو ما أدى إلى حالة من المنافسة على السهولة والتضخم. 
ويرى الكاتب الجزائري أن الرواية العربية تشهد مرحلة كمية كبيرة وخطيرة لأنها تغرق الجيد في الغث. في هذه السنة التي انقضت صدر في العالم العربي ما لا يقل عن 1000 رواية. الجزائر وحدها أكثر من 200 رواية. أمر مهم جدًّا على الأقل من الناحية العددية، بغض النظر عن الاستجابة الإجناسية من عدمها، لهذه النصوص، لكنها تحمل كلها علامة رواية، وكأنها ماركة مسجلة تسمح لها بالعبور على مستوى مقروئية تنتظر مثل هذه المناسبات الثقافية. 
وأشار إلى أن الجوائز العربية الكبرى مثل جائزة الشيخ زايد، كتارا، البوكر العربية، الشيخ راشد تتلقى آلاف النصوص بدون مبالغة، وكلها تجرب حظها في الفوز بالجائزة، حاملة العلامة الإجناسية التي تؤهلها للقبول في مرحلتها الأولى على الأقل: رواية، وهي ليست كذلك. 
وقال: يبدو أن وسائط التواصل الاجتماعي جعلت من أمر الكتابة أمرًا شديد السهولة. الكثير من الكتبة (سأفرق بين الكتاب والكتبة) فهموا لعبة التواصل ضمن السوية العامة للمقروئية التي غالبيتها تعودت السهل، ناهيك عن غياب كلي للتحرير. النص مثلما يسلم للمطبعة أو للناشر يتم القذف به إلى ساحة المقروئية، وكأن الناشر غير معني، فهو في النهاية لا يغامر، فقد أخذ حقه المالي لحظة طباعة الكتاب، وغير مهتم بانتقاله من ناشر على مجرد طابع؟ وقد يشارك في لعبة الإشهار مطالبًا بجزء من الجائزة في حالة فوز الكاتب. 

وأوضح صاحب "ذاكرة الماء" أن الروايات تنشر أولاً في الوسائط الاجتماعية كالفيسبوك، فتصبح مرئية وهذه أيضًا نقطة في غاية الأهمية لأنها تمهد لشيوع الكتاب، وكأنها مسلسلات تركية أو مكسيكية سابقًا، ويشد الكتاب انتباه القارئ حتى اللحظة الأخيرة، وتكفي اللايكات الكثيرة ليشعر الكتاب بأن نصه أصبح محبوًبا. أخطر من ذلك يتحول اللايك إلى بديل عن النقد التأملي والروائي، وقد فرضت هذه الوسائط أسماء قد لا تعني لنا الكثير لكننا نجدها في كل مكان حتى في المطارات العربية في متناول أي قارئ يريدها؟ وتبدو الروايات الكبيرة للأسماء المعروفة، المرصوصة في المكتبات بصمت مزمن، كما لو أنها ديناصورات على أهبة التحلل، تقاوم فعل الزوال والانقراض. يتخطى القارئ الجديد أعمال محفوظ ومنيف وحنا مينه ويركض نحو التجارب الجديدة التي تتحدث عن انشغالاته ولغته، المشكل ليس في هذا. ما هذه الانشغالات التي كانت تشغل القعيد والغيطاني، والخراط، هل نفسها مع هذا الجيل السهل؟ قراءة بسيطة لهذه الروايات لا يدفع إلى المسرة والراحة. 
ويرى واسيني الأعرج أن النموذج (الروائي) الذي يتم تثبيته اليوم للأسف ليس النموذج الروائي على الأقل كما عرفناه، وهنا لا أتحدث عن التجربة الشبابية الخلاقة التي هي بدورها أضعفها هذا النوع من الأدب السهل وجعلها في حيرة، إما الانتقال إلى السهولة والضحالة، وإما الحفاظ على ما تبقى من قيم ثقافية تضعها في أفق التاريخ وليس الاستهلاك السهل، وهذا لا يعني الرواية فقط ولكن الفنون جميعها. يحتاج الأمر إلى توصيف حقيقي للظاهرة وعن قرب، من عتباتها المغرية حتى مضامينها الداخلية. 
ويعتقد صاحب "أصابع لوليتا" أن مسؤولية النقد كبيرة في هذه المرحلة، لكن النقد نفسه يشعر بنوع من التعالي عليها، فلا يلتفت إليها، وينسى كليًّا أن عدم الالتفات إليها لا يلغي حضورها ووجودها. 
صحيح أن كثيرًا منها عبارة عن فقاعات سرعان ما تموت بانفجارها بارتطامها مع أي حاجز حتى ولو كان هوائيًّا، لكن الخطر هو في مستهلكها أيضًا. مستهلك مستواه ليس دائمًا كبيرًا، يشبه بل يتماهى مع الروائي كاتب النص. كلاهما يصنع الآخر في التواصل الاجتماعي الذي أصبح سهلاً. 
وينهي شهادته بسؤال: هل ساعدت الوسائط على انتشار الرواية؟ نعم. لا يمكن نكران ذلك، فقد جعلت منها جنس العصر. لكن أية رواية؟ هو ذا صلب النقاش.