أيمن حلبي بين وجوه الوجع والأصابع النازفة المغروسة فيها

التشكيلي ابن الجولان المحتل يلح بأن الفن المعاصر حين يواكب الوجع الكبير لا يمكن أن يتيه أو يضل الطريق، هذه المواكبة هي قبض لحظات من الزمن المر وما تبعثر منها في الإنكسارات الكثيرة.

"أنطلق في لوحاتي من معاناتي الشخصية وحالة التمزق العائلي ما بين دمشق والجولان"، مقولة تلخص حالة الفنان ووجع الطريق والهوية، مقولة توحي فوراً بأن قائلها ينتمي إلى جولان المحتل وعاش في دمشق، وهو كذلك، إنه الفنان أيمن حلبي إبن مجدل شمس حيث ولد فيها عام 1973، ودرس الفن في دمشق، في كلية الفنون الجميلة وتخرج منها عام 1998، ليعود بعدها إلى حيث ولد، حاملاً معه آماله وأحلامه علها تترجم إلى واقع بعيداً عن نير وإحتلال، علها تبرز له تلك العلاقات التي أفرزتها الحياة الجديدة، وتضيء له الطريق نحو الحرية والإبداع، معمقاً فهمه بشكل سليم إلى أقصى حدود الإخلاص لقضية شعب، لقضية إنسان وهويته، ساعياً لأن يكون أميناً في نقل الوجع بكل تفاصيله التي هي تفاصيل المرحلة الزمنية بكل إنتاجها المتاح، وتجسيدها بحركات تعبيرية تحمل تلك الحساسية الجديدة التي تلد كصدى ملموس لتاريخية المكان، وتكوين شخصيات لها معاناتها من الأحداث الداخلة في أساس الحياة وفهمها، وهذا مبدأ فعال لدى الحلبي وعلى نحو أخص في تصويره الصادق للواقع والإنسان، للواقع الذي يميزه بعناية بين تأثير العصر الذي يألف فيه، وبين الزمن الذي يعتبر بحد ذاته موضوعاً لتصويراته، وللإنسان وهو يجسد سمات عصره وخصائصه، للإنسان الذي تسحقه الحياة القاسية في ظروف إستثنائية، كل ما فيها تشير إلى الظلم والإستغلال والضياع، وهنا يكمن مفتاح أيمن حلبي في فتح صندوقيه الأسود والأبيض الحاملين لتلك الخصائص الإنسانية العامة المتجلية في السمات الثابتة لشخصيته، تلك الشخصية التي لم تستكن بل مضت في عام 2016 مع شريكة دربه الفنانة ديالا مداح في تأسيس مشروع ثقافي للموسيقا والفنون التشكيلية يحمل إسم "مجاز"، المشروع الذي سيكون رئته في هذه الحياة وكلمته فيها.

تجربة أيمن حلبي بوصفها تجربة خاصة لها ما يميزها، ولها أصابعها النازفة المغروسة فيها، ولها لحظات إحتدام المواجهة بدافع التصعيد الدرامي الشديد في مشهد لا ختام له، أقول تجربة أيمن بوصفها تجربة خاصة تقود رموزها الخاصة بأشكالها وأزمانها نحو إختياراته المختلفة والمتنوعة، بإستجابات غير متنافرة إلى الوضع الدافعي التي انطلقت منها تلك الإختيارات، وتنجح في تحويل شكل فني إلى شكل فني آخر تحتاج إلى قراءة خاصة، لا تكتفي بتلك اللغة التي تميل إلى ما هو أقرب إلى توقعاتي، أو ما تشبع روحي، أو إلى ما هو أقرب من إعادة إنتاج خاصعة لشروط الخاصة التي أكتب بها عادة، بل تحتاج إلى لغة هي إنعكاسات لأسلوب الفنان ذاته ومن طرازه، وبالقدر نفسه من القيمة المعرفية التي يحملها إداء كل منهما، تحتاج إلى لغة تؤكد بكل حماسها نقاط اللقاء والإتفاق بينهما، إن كان في رصد سلسلة من المؤشرات الدالة على الزمان والمكان وفق ما يمتلك كل منهما حركته في الإنتقال من سردية إلى أخرى، أو ما كان في عرض شواهد متدافعة في كثير من جوانب الوجوه بليلها وعتمتها، بألمها وأملها، بحماسها وما تتمتع به من مفارقات لافتة، فموقف حلبي الجمالي هنا يغدو جملة يجاهر بها، ولا يترفع عن قولها وممارستها، جملة شديدة الدلالة، تقف بإجلال أمام حالة تشبه النشوة الصوفية في توصيفها، حالة تلمه في حضرة الجمالي المتحمس لقضايا الحدس والحلم في الخلق الفني، حالة فيها يتأهب تماماً ليلتقط النغمة المولدة لتلك الدوافع في تعدد أشكالها وتنوع سياقاتها الفاعلة.

أيمن حلبي في الوقت الذي يواجه شروط جديدة في واقعها المتحول، وفي علاقاته بالآخر فيجمع أكثر من نغمة، كل منها تستجيب له وتخدم ذاته الحركية التي فيها تتجلى ما يفي حاجاته الفنية وتعلن عن نفسها بأنها دفق الدلالات وتنوعها دون أن تفقد تكثيفها ولا في كيفية تشكلها، أقول في الوقت الذي يواجه شروط جديدة في بنائها لحشد من الدلالات التي تعضد جمالية مشهده نجده يبني مدينته الخاصة على أنقاض مدينة أزالتها الآلهة، بشخوص خاصة جداً، مدينة لا تخذله، بل ترتب عليه أن يشرع في حَبْكِ أوجاعها وأحلامها التي تحضر في مشهدية قائمة على إبانة الطريق وبما تحققها من حركيّة الإنتقال من المعلوم الموجوع والواقعي الأكثر وجعاً إلى ما يجعل كل شيء واقف في العراء، إلى الخيالي واللامعقول، وبما لا تلغي التكثيف الدلالي ولا تعطله، ففي حضرة مواجهته للمتخفي الذي يأتي بعضه ليبتني القاع، ليبتني في الكلام وبالكلام، يذهب ليغري الموجودات التي تحكمها علاقات التجاور وما يذرف فيها من الدموع على المأساة، وما يغرس صراحة في الحركة الموالية في صور متشابكة إذ الناظر فيها سرعان ما يدرك بأنها كلها تدل على الفظيع، وترشح بالدلالة على القهر، وبوجوه تائهة بين الأبعاد، وجوه زرعوا فيها حبال الموت ليبدأ سفر التوغل بالإستيقاظ، لا يسنده في ترحاله الممض غير هدير الكلمات، فحلبي يطرح في وجوهه حشوداً من القضايا تخص العصر ووجعه الكبير، وجوه منتهكة بفعل التغيير ومدى إسهامه في كيفية الإرتقاء والخروج عن القطيع، فهي تتلقف ذلك المكان في شيء من إفتنان الذات، في شيء من إنقباض النفس عن أمور لم تعد ترغب في الإنبساط، فيلح حلبي مع آخرين، مع عمران يونس وياسر الصافي وهبة العقاد.. إلخ بأن الفن المعاصر حين يواكب الوجع الكبير لا يمكن أن يتيه أو يضل الطريق، هذه المواكبة هي الأخرى من المنجزات الكبرى التي يمكن الشروع بها وبإرسائها، وتحمل في تلاوينها رؤيتها للعالم وطريقة حضورها فيه، هي قبض لحظات من الزمن المر وما تبعثر منها في الإنكسارات الكثيرة، فما أبدعوه هؤلاء لا تخوم لها، بل لها سموات ومناقب الرفض في نبرتها التي لا تلد إلا في رحاب الإنعتاق.