إضاءة الدماغ في لحظة الإبداع

هل يستطيع العلماء أن يرصدوا إضاءات ما في عقل المبدع لحظة الإبداع؟ وهل تستطيع مسوحات الدماغ أو الرنين المغناطيسي أن تدلنا على شيء من هذا؟

الشعر يجلب الشعر، والكلمة تولِّد الكلمة. فعندما أقرأ نصًا شعريًا جيدًا، في أماكن النشر المختلفة، أجدني أتفاعل مع ما أقرأ، وأجد نفسي محرَّضة على كتابة الشعر، وتلقائيًا أمسك بالقلم لأكتب غمغمات قصيدة. وأحيانًا لا يحدث ذلك، مهما قرأت من شعر للآخرين.

إن لحظات المكاشفة الشعرية ما زالت سرًا من أسرار الإبداع التي وهبها الله سبحانه وتعالى لبعض خلقه. أحيانًا تنهمر عليَّ القصيدة في لحظة مستثناة، وأحيانًا تستعصي على ذلك، بل قد لا تجود الكلمات بحرف واحد على الرغم من التلبس بالحالة الشعرية.

أحيانًا يكون لدى الشاعر الرغبة القوية في الكتابة أو القول الشعري، ولكنه لا يجد الكلمات التي تسعفه. وأحيانًا يجد الكلمات في أماكن غير مناسبة تمامًا، وإذا أهمل تدوينها فسوف تطير كما يطير طائر النورس عن صفحة المياه الزرقاء التي وقف عليها منذ دقائق.

أحيانًا تُكتب القصيدة في لحظة واحدة، أو في لمحة واحدة من لمحات الزمان. وأحيانًا تُكتب في شهر أو أكثر، وأحيانًا تكتب القصيدة نفسها.

لديَّ قصائد عديدة لم تكتمل بعد، رغم مرور شهور على تدوين مطالعها التي ربما تكون خواتيمها إذا جلست إليها مرات أخرى. وأحيانًا تنهمر القصيدة، ويجيء الشعر كما يجيء النهر في لحظة عطش شديد، محلقًا بصوره وموسيقاه ولغته الخاصة.

إذًا لا توجد قاعدة، ولا يوجد يقين محدد أن الساعة كذا سوف أجلس إلى مكتبي، وأمسك بالقلم لأكتب شعرًا. هذا لا يحدث على الإطلاق، لذا فإنني كنت أدهش كثيرًا من قول كاتبنا الكبير نجيب محفوظ في بعض حواراته أنه كان يحدد أوقاتًا معينة من نهار اليوم (من 3 ـ 6 عصرًا على سبيل المثال) ليكتب رواياته. أما في فصل الصيف فلا يكتب شيئًا، وإنما يقضيه في التأمل والصحبة على شواطئ الإسكندرية. ربما يحدث هذا في الروايات الطويلة، أما في الشعر فلا أعتقد.

وكنت أعجب من صديقي الشاعر الراحل مرسي توفيق عندما كنا نفترق بعد جلستنا على المقهى، فيقول لي إنه سيكتب قصيدتين الليلة، وبالفعل نلتقي في اليوم التالي ومعه قصيدتان جديدتان.

ولكن دعونا نستفد من التقدم العلمي وتطور وسائل الاتصال المختلفة، ونتساءل: هل يستطيع علماء الكمبيوتر في المستقبل القريب تصميم برامج تساعد، بإذن الله، على اكتشاف لحظات الإبداع قبل حدوثها، وتنبيه صاحبها إلى ذلك عن طريق رصد مشاعره وأحاسيسه والتغيرات الكهرومغناطيسية والفسيولوجية والسيكولوجية التي تطرأ عليه قبيل أوقات الإبداع، ليتهيأ لها المبدع بكامل طاقاته وقدراته الفنية والإبداعية، فيحتشد الاحتشاد اللائق بالقصيدة، ويتوحد مع كلماتها وإيقاعاتها؟

هل يستطيع علماء المخ والأعصاب أو أساتذة الخلايا العصبية أن يرصدوا إضاءات ما في دماغ المبدع لحظة الإبداع؟ وهل تستطيع مسوحات الدماغ أو الرنين المغناطيسي أن تدلنا على شيء من هذا؟

الأمر لا يتعلق بالشعر وحده بطبيعة الحال، ولكنه ينطبق على لحظات الإبداع بعامة سواء في التشكيل أو الكتابة أو التمثيل أو أي بارقة إبداعية تنير الطريق لنحتشد لها الاحتشاد الواجب.