"ابتسامة ما" والبعد النفسي

شخصية فرانسواز ساغان تطغى على شخصية البطلة، حيث أكدت الكاتبة أنها تؤمن بالرغبة التي قد تدوم سنة أو سنتين أما غيرها فلا تريد التَحَدُثَ عنها. 
النصوص الروائية أكثرَ تداخلاً مع مناهج التحليل النفسي
الحب هو ما يحدث بين اثنين يحب كلاهما الآخر

تشابك علم النفس مع الفنون والأدب، وقد تكون النصوص الروائية أكثرَ تداخلاً مع مناهج التحليل النفسي، وهذا ما يمكنُ معاينته في عدد من الأعمال الروائية منها "إبتسامة ما" للروائية الفرنسية فرانسواز ساغان الصادرة عن دار المدى 2019، حيث يلاحظ التركيز على البعد النفسي في تركيبة شخصيات الرواية. 
تفتتح الرواية بمقولة للكاتب الفرنسي روجي ڤايان "الحب هو ما يحدث بين اثنين يحب كلاهما الآخر". 
وتبدأ الرواية بوصف العلاقة المملة التي تعيشها دومنيك، وهي فتاة جامعية، مع صديقها برتران منذ البدء. بقراءة أولى صفحات الرواية نتأكد من أثر الملل على بطلة الرواية، وهي تسرد يومياتها المتكررة مع صديقها "استيقظ، ألتحق بالدّروس، أجد برتران، نتناول الغداء، هناك مكتبة التربون، البناء العمل، شرفات المقاهي، الأصدقاء. مساء نذهب للرّقص، أو نعود إلى شقة برتران، نتمدد على سريره، نمارس الحب، ثمّ نظل نتحدث طويلا في العتمة. كنت بخير وكان دائماً ثمة في أعماقي ما يشبه الدابة الساخنة الحية، طعم الضجر، الوحدة والحماس في فترات أخرى أحدث نفسي أحياناً بأني مُصابة بالتهاب الكبد".

الرواية ليست محض وصف للحياة يبعث على المتعة، بل هي شيء يمكن أن يتنافس مع الحياة وأن يطورها ويرتقي بها، بل وحتى يفوقها

إلى أن تتعرف دومنيك على لوك خال حبيبها برتران، وهو رجل كهل وتراودها رغبة لملامسة وجهه، وأقرت بأنهُ أكثر مشتهاة من ابن إخته، لذلك يعجبها أكثر من برتران، علماً بأنَّ لوك لم يكنْ وسيماً غير أن قسمات شكله هي ما شدت دومينيك. طبعاً يكمنُ تفسير هذا الموقف في الرغبة التي بمثابة المحرك الرئيس للشخصية. 
"نادراً ما تكون لدي الرغبة في تحقيق أمر ما، لكن هذه المرة فكرت في أني أشتهي لمس هذا الوجه بيدي، الإمساك به، ضمه بأصابعي". 
وهنا نلاحظ أن شخصية الكاتبة تطغى على شخصية البطلة، حيث أكدت ساغان أنها تؤمن بالرغبة التي قد تدوم سنة أو سنتين أما غيرها فلا تريد التَحَدُثَ عنها. 
هنا تبدأ مساعي دومنيك الغرامية لبناء علاقة جديدة مع لوك وتقرر التخلي عن حبيبها برتران الذي وصفت علاقتها به في بداية الرواية: "برتران حبيبي الأول معه تعرفتُ على عطر جسمي. على أجسام الآخرين نكتشفُ دائما أجسامنا، طولها رائحتها بحذر في البداية، ثم بالعرفان". 
فنجد هنا أن المستوى النفسي هو محور البيئة السردية، رغبات البطلة وخوفها من الملل ومن فقدان السعادة: "السعادة بالنسبة إلى أناس مثلي، هي ربما نوع من الغياب، غياب الملل غياباً مطمئناً". وهذا كان دافعاً لخوض هذه التجربة لإثبات  أنها تستطيع اختبار علاقات جديدة خارج العلاقة التي عاشتها سابقاً. وهنا نجد أن البطلة لا تقنع بأن حياتها ستنتهي عند حدود تجربة معينة، والطريقة الوحيدة لإثبات وجهة النظر هذه ليست إلا التفكير بتجارب أخرى، الرغبة هنا هي عبارة عن أحد التجليات المعبرة عن مفهوم السعادة. وهذا يذكرنا برواية "هل تحبين برامس" لساغان حيث نجد أن بطلة الرواية (بول) التي أهملها حبيبها حاولت استعادة توازنها النفسي عن طريق إقامة علاقة جديدة. 
وبالعودة إلى دومينيك التي تقيم علاقة خالية من الحب مع لوك، هذه العلاقة التي تحل الرغبة محل الحب فيها ويتعمق التواصل الجسدي بينهما وعندما تريدُ دومينيك وصف ما يربطها بـ لوك تدركُ بأنَّ ما تعيشه يقع خارج الأطر. تقولُ متسائلة: "لا أدري إن كان هذا حباً أو تفاهماً هذا لا يهم كنا وحيدين كل من جهته". " لم أرحل مع لوك لأنه يحبني ولا لأني أحبه. ذهبت معه لأننا نتحدث اللغة ذاتها، ولأننا معجبان ببعضنا بعضاً". 
لكن الأمور لم تسِر مثلما اتفق الاثنان فطرق الحبُ باب الرغبة عندما سافرا معاً لأول مرة. 
يبدوُ مناخ روايات فرانسواز ساغان هادئاً في الظاهر إذ أنَّ شخصياتها معدودة وتتحركُ في مساحة محدودة، لكن هذا يناقض لما يتم إكتشافه على المستوى الداخلي لدى الشخصية الأساسية حيثُ هناك صخب وتوتر في الأعماق، فرغبة دومنيك العيش مع لوك تتعارض مع رفضها لفكرة أن يترك لوك زوجته فرانسواز، فدومنيك كانت تمتلك مشاعر نبيلة تجاه فرانسواز مما جعلها دائماً تشعر بأسف ناحيتها "كدت أقول لأعتذر، لكن الكلمة بدت لي ضعيفة. قلتُ الحقيقة، لأني رغبت في ذلك، لأني حقاً وحيدة". "لم يخطر لي أن الحكاية يمكن أن يكون لها أبعاد اخرى، مجهولة من جانبي، حقيرة، ليست حتى حقيرة، عادية حزينة". 

رواية
كنت امرأة أحبت رجلاً

ومع تصاعد الأحداث ومعرفة برتران حبيب دومينيك السابق بعلاقتها الحالية مع لوك عن طريق كاترين الصديقة الغيورة لدومينيك، وعلى الرغم من اكتشاف فرانسواز زوجة لوك لعلاقة الأخيرة مع زوجها، فأنها لم تتخذ موقفاً مناوئاً بل حدبت عليها حناناً وعطفاً، وأرادت أن تخرج هذه الطالبة من مظهرها التعيس. 
يذكر أن النص مضفور بعبارات دالة على المشاعر والمواقف الإنسانية. تقول ساغان على لسان البطلة "العيش في تجلياته القصوى، هو أن يرتب المرءُ نفسه ليكون سعيداً أكثر ما يمكن". وفي ذلك نبرة أبيقورية عن الحياة، ومع ابتعاد لوك عن دومينيك تبدو الحياة صعبة جداً لدومينك التي تعيش مرارة البعد بعد ما أيقنت أن خوضها لعلاقة كانت فيها الرغبة المحرك الأساسي أسفرت عن حب حقيقي. 
"مازلت قادرة على فصل الإنسان، عن الشريك، عن سبب شغفي: العدو. وكأن هذا هو المأزق؛ ألا يكون في وسعي الاستهانة به؛ كما نقلل عادة من شأن أناس يحبوننا بفتور". "لا يمكنني أن اقول له إني أرى، أو اتوهم بأني أرى سيارته في الطريق حيثما اتجهتُ، بأني أبدأ رقمه دون توقف ولا أتمه أبداً، بأني أسأل صاحبة الإقامة بشكل محموم لدى عودتي، بأن كل شيء يفضي إليه وأني أرغب فيه حد الموت".  
كما عودتنا صاحبة "في شهر في سنة" على التركيز على البعد النفسي والاختلاجات النفسية في رواياتها منذ رواية "صباح الخير أيها الحزن" مروراً برواية "هل تحبين برامس" وصولاً إلى رواية "ابتسامة ما" حيث نلاحظ دائماً أن شخصيات روايات صاحبة "جرح الروح" معدودة يتحركون في مساحة محدودة، لكن هناك صخب وتوتر في أعماق الشخصيات. كذلك اهتمام ساغان بالموسيقى ينعكس واضحاً في شخصية دومينك المهتمة بجمع الأسطوانات وسماعها لمقطوعة لموزارت موضوعها "الفجر، كالعادة، الموت، ابتسامة ما". 
عندما تبلغها مالكة النزل في نهاية الرواية بأن هناك مكالمة تنتظرها من شخص يعتقد أنه حبيبها لوك، تقول: "سمعت صوته. كان صوته. من أين جاءني هذا الهدوء، كأن شيئاً حياً، مهماً، ينبع مني". 
وفي آخر الرواية تعود ساغان للتركيز على البعد النفسي للشخصية وخوفها من الوحدة والملل فتقول: "أعرف أني وحيدة من جديد. رغبت في أن أقول هذه الكلمة لنفسي. وحيدة. وحيدة. لكن ماذا في النهاية؟ كنت امرأة أحبت رجلاً. إنها حكاية بسيطة؛ ليس ثمة ما يبرر رسم تعبير على الوجه". 
أخيراً فإن من يقرأ رواية "ابتسامة ما" يشعر في بداية الرواية أنها رواية تقوم على أساس موضوع الرغبة، لكن بالتعمق بها نلاحظ أنها رواية نفسية بامتياز، الرواية كما قال جيمس جويس: "ليست محض وصف للحياة يبعث على المتعة، بل هي شيء يمكن أن يتنافس مع الحياة وأن يطورها ويرتقي بها، بل وحتى يفوقها".