احتفالية القرن لنهاية الحرب العالمية الأولى

مائة عام على انتهاء الحرب التي فتحت الباب للمزيد من الحروب.

في مشهد سريالي يجري العالم في 10 و11 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي احتفالية هي الأضخم بمرور قرن كامل على نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي مناسبة تخفي خلفها تحديات كثيرة للدول الكبرى المشاركة فيها، باعتبار أن ما نتج عن الحرب عناوين أساسية لقيادة العالم ومن بينها نظام الآمن الجماعي الذي قامت عليه عصبة الأمم ومن ثم الأمم المتحدة. وفي قراءة سريعة ودقيقة يظهر أن الهاجس الأمني بخلفياته الاجتماعية والاقتصادية لا زال يشغل حيزا واسعا في إطار تنظيم التحالفات في العلاقات الدولية، وبخاصة الدول الطامحة للعب ادوار مهيمنة في النظام العالمي.

لا شك في أن المناسبة تمثل حيثية بارزة للنظم الديموقراطية التي انتصرت في الحرب والتي فرضت معاهدة فرساي، التي لم تكن سوى تنظيم هدنة لمدة عشرين سنة كما وصفها وزير الخارجية الفرنسي آنذاك وكان محقا في ذلك، إذ اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام 1939، لتعيد تجربة ما أرسته نتائج الحرب الأولى لكن بأدوات ووسائل مبتكرة لم تتمكن هي الأخرى من لجم الصراعات والحدِّ منها، بل أخذت وجها جديدا تمثَّل بالحروب الباردة بين حلفاء الأمس، وكلفت البشرية خسائر لا تقل فداحة عن الحربين السابقتين، ذلك عبر الحروب والنزاعات في غير منطقة وإقليم في العالم. هذا ما يستدعي إثارة أسئلة مركزية في العلاقات بين الدول ومن بينها الوسيلة الأنجع لفرض السلم والأمن الدوليين بعد عدم التمكّن من حمايته، وهي معضلة لطالما قضّت مضاجع الدول الكبرى المهتمة بذلك.

على هامش الاحتفالية المئوية في باريس سيتم لقاء الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، وسيكون عابرا يبدو كما أرادته فرنسا لبقاء الاحتفالية بعيدة عن أي تأثير، لكن ذلك لا يلغي بالضرورة مسؤولية الدول الكبرى في معالجة العديد من القضايا الدولية الحساسة ومن بينها مثلا الصواريخ البالستية المتوسطة المدى والتي أعلنت واشنطن رغبتها في الانسحاب منها، علاوة على الأزمات الإقليمية ذات الأبعاد الدولية التي تضفي المزيد من التوتر الدولي، ومن المؤكد أن هذه القضايا ستُرحّل إلى أواخر الشهر الحالي لمناسبة انعقاد قمة العشرين الصناعية في الارجنتين، والتي على ما يبدو ستكون مناسبة لمحاولة رسم خارطة طريق لحل بعض القضايا.

وبصرف النظر عن حدود النجاحات والفشل في تنفيذ ما يمكن الاتفاق عليه بين موسكو وواشنطن، تبقى معضلة الأمن الجماعي التي كانت عنوانا لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، ومن ثم مرحلة انفراد الولايات المتحدة في قيادة العالم، من التحدّيات القائمة، والتي تزداد ظهورا ورسوخا مع الوقت، فما هي السبل الكفيلة بالحد من تداعيات المشكلة إن لم يكن بالإمكان حلها بطرق حاسمة؟

حتى الآن، لم تتمكن أيا من المنظمات الدولية أو الإقليمية من احتواء معضلة الأمن الجماعي، وإيجاد البيئات الكفيلة للولوج بسياقات حلول ممكنة، مرد ذلك سياسات الدول المهيمنة في الأمم المتحدة وعدم رغبتها أولا وأخيرا التنازل عن الكثير من الامتيازات التي قطفتها نتيجة انتصاراتها في الحربين العالميتين السابقتين والحروب اللاحقة التي كانت نتائجها وتداعياتها لا تقل وزنا عن السابقتين، فهل ستكون هذه الاحتفالية مناسبة لإيقاظ ما تبقى من أحلام البشرية جمعاء؟

بالنظر للتجارب السابقة ومحطاتها المتنوعة والمتعددة، لا أمل بذلك، بل تشي بصور تمجيد وتعظيم وسائل القوة التي توصلت إليها هذه الدول، وإظهار مدى قدرتها على استعمال عناصرها ووسائلها بفعالية عالية، وهو أمر معتاد عليه ومتكرر في كل مناسبة، وهو أيضا لا يتباين ولا يتناقض مع الخلفيات التي تتحكم بالعلاقات الدولية، بل تعتبر هذه المظاهر من أسسها وأدوات تنفيذها. وفي أي حال من الأحوال، لا تشكل هذه الاحتفالية سوى تميزا برقمها المئوي، الذي لم يختلف عما قبله أو بعده.