تحديات العدالة الجنائية الدولية
ظلت العدالة الجنائية على الصعيد الدولي تحديا يقلق انصار حقوق الانسان ومكافحي الجرائم الدولية. ورغم التطور الفارق الذي رافق آليات المتابعة، كإنشاء المحكمة الجنائية الدولية وانطلاق عملها في العام 2002، ظلت المحكمة محط انظار داعميها ومعارضيها على حد سوء، بالنظر لما يعلق من آمال كبيرة عليها، لجهة نشر العدالة الجنائية وتثبيت أركانها وتنفيذ قراراتها وأحكامها في وقت انتشرت فيه الجرائم بشكل غير مسبوق، وفي وقت بدأ حماس المجتمع الدولي يشهد تراجعات مقلقة حول عملها وإمكانية الاستناد اليها كمرجع لمواجهة الجرائم والانتهاكات التي انتشرت في غير مكان في عالمنا اليوم.
فمنذ محكمتي طوكيو ونورمبرغ بعد الحرب العالمية وما تبعهما من محاكم جنائية خاصة او مختلطة ظل الاهتمام الدولي منصبا على انشاء محكمة جنائية دولية دائمة، ورغم محاربة العديد من الأطراف الدولية الوازنة، انطلقت المحكمة ولو بتعثر واضح في بعض المحطات، من قبل بعض الدول التي دعمت تشكيلها واطلاقها ومن ثم تراجعت وانسحبت من عضويتها، وهو امر هدد مصداقية عملها واللجوء اليها؛ وهو امر ينسب مبدئيا الى الولايات المتحدة وروسيا. والامر لا يقتصر على دول عظمى، بل شمل دولا أخرى من كافة الاحجام والمستويات، بخاصة ان الجرائم التي يمكن ان تتعامل معها المحكمة هي منتشرة بشكل واسع، وبخاصة في المجتمعات والدول التي تنتشر فيها جرائم الحروب، والتي توجه فيها أصابع الاتهامات الى مسؤولين يتمتعون بحصانات تمنع محاكمتهم وتتيح لهم فرص الإفلات من العقاب.
ثمة مئة وخمس وعشرون دولة انضمت الى المحكمة ولا زالت في عضويتها حتى الان من اصل مئة وثمانية وتسعون دولة عضوا في الأمم المتحدة. ورغم عدم فعالية هذا العدد الكبير نسبيا، الا ان ثمة مظاهر متنامية تبرز بتمسك بعض الدول في الدفاع عنها، فمؤخرا تبين ان 79 دولة عارضت وانتقدت الإجراءات التنفيذية العقابية التي أعلنتها الولايات المتحدة لجهة التمويل، وهي في الأساس لم تنضم قبلا، علاوة على انسحابها من عضوية مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة على قاعدة ما وجهته هاتان البيئتان الدوليتان من اتهامات ضد إسرائيل مؤخرا على ما جرى في غزة ولبنان.
في الواقع ان الانسحابات التي تمت من عضوية كل من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الانسان تشكل ضربة قوية لأرفع آليات قضائية يمكن الاستناد اليها واللجوء لفضاءاتها لما تشكله من أسس معنوية مطلوبة في القضاء الدولي، والامر هنا يطال بعض الدول الكبرى كروسيا مثلا التي انسحبت، علاوة على التهديدات المستمرة التي تنطلق لجهة الانتقادات التي توجه للمحكمة والتلميح الدائم بالانسحاب منها او مواجهتها بعقوبات مختلفة تؤثر على طبيعة عملها ماديا ومعنويا.
في الواقع، تمكنت كل من المحكمة الجنائية الدولية ومجلس حقوق الانسان من محاولة انجاز ملفات عدة وإجراءات عملية لقضايا متصلة بانتهاكات حصلت في حروب عدة جارية حتى الآن ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الحرب على اوكرانيا او ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوانت غلانت، في الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وسابقا في دارفور ضد الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير او في ليبيا ضد الراحل معمر القذافي وقيادات النظام السابق.
يشار في معرض النظر للقضاء الدولي في انتهاكات الحروب، ان الامر ليس مقتصرا من الناحية المبدئية على المحكمة الجنائية الدولية التي تحاكم افرادا مسؤولين عن اعمال قاموا بها بصفتهم الشخصية وليس بصفة دولهم، فيما مقاضاة الدول على اتهامات مماثلة تجري لدى محكمة العدل الدولية، وأيضا لدى مجلس حقوق الانسان وهو مجلس له صلاحيات استشارية، واجه الكثير من الصعوبات والعقبات لدى اطلاقه قبل عقدين ونيف من الزمن.
تمر المجتمعات البشرية والنظم السياسية في ظل النظام العالمي القائم في ظروف غاية في التعقيد والضغوط والآثار المتصلة بالحروب والممارسات الناشئة عنها، وهي احوج ما تكون الى دعم الدول القادرة على تقديم العون لبيئة القضاء الدولي لمتابعة تنفيذ ما أنشئ من اجله، الا ان الواقع مختلف تماما، حيث تتزايد أحيانا مظاهر عدم الرضا عن أسلوب العمل وطبيعة النتائج المنجزة، لتصل الأمور الى سلوك مؤذ يمكن ان يقضي على جهود استمرت طويلا لتكريس مظاهر هدفها إرساء قواعد تشعر بأمان المجتمعات البشرية.
ثمة ضرورة واجبة ولازمة لاعادة تقويم عمل المؤسسات القضائية الدولية من جهة، والعمل على مراكمة الاعمال والإنجازات التي تشعر المجتمع الدولي بأهميتها والمضي بالتمسك بها، كما ينبغي ان ينسحب الامر نفسه على عاتق الدول الكبرى القادرة بشكل أساسي على تقديم المعونة المعنوية والمادية لمسيرة اعمالها، سيما وان هذه الدول أي الكبرى تحديدا، يمكن ان تتمكن من إعادة برمجة سلوكياتها السياسية في النظام العالمي عبر الاسهام في تقديم المساعدات والبرامج، وهو الطريق الانجع لهذه الدول لامتلاك مكتسبات تسعى اليها في محيطها الدولي.
من الصعب تصور نظاما عالميا فيه هذا الكم الهائل من المصالح المتضاربة والتي تترجم غالبا بنزاعات وصراعات وحروب يتخللها انتهاكات مدوية، من عدم وجود بيئة قضائية دولية يمكن الاستناد اليها في معرض مواجهة هذه الانتهاكات الجائرة، وبالتالي ان البشرية بحاجة الى آراء حكيمة وراجحة تنتج أفكارا قابلة للتنفيذ في معرض سيادة العدل والانصاف الدوليين.