مفارقة الحكومات اللبنانية

خطاب القسم لرئيس الجمهورية جوزيف عون تمثل تحديا موصوفا لحكومة الرئيس نواف سلام.

لطالما شكلت الحكومات اللبنانية علامة فارقة في الحياة السياسية والدستورية في لبنان، ومرد ذلك العديد من الأسباب التي تبدو مفهومة في بعض الأحيان والتي تستند الى قضايا متصلة بالأعراف والدستور، وتارة أخرى تتصل بجوانب شخصية وعلاقات ممتدة تبدأ بالقرابة والتوارث السياسي ولا تنتهي بجوانب عديدة عصية على الفهم والتحديد.

في معظم النظم الدستورية والسياسية المتعارف عليها، تبدو الحكومات انعكاسا للواقع الدستوري مع جوانب أخرى ليست بالضرورة حاسمة، فيما واقع الحكومات اللبنانية امر مختلف في كثير من الأوجه التي تبدو أحيانا كثيرة عصية على التفسير او القبول، بالنظر لتداخل العديد من الجوانب الحاسمة في بنيتها. إضافة الى ذلك، ثمة نوعان من الحكومات من الوجهة الدستورية مرا في تاريخ العهود الرئاسية التي توالت على الحكم في لبنان. المجموعة الأولى ما قبل التعديلات الدستورية وفقا لاتفاق الطائف، بداية تسعينيات القرن الماضي، فيما النوع الثاني الذي حكم في اطار السلطة التنفيذية وفقا لأحكام بدت خاصة، وتسببت بظهور اعراف وسياقات حكم لم تكن موفقة.

لم تكن حكومات ما قبل الطائف تشكل مشكلة ذات شأن خلال تشكيلها، ذلك لارتباطها بموقع رئيس الجمهورية الذي يحوز على صلاحيات وازنة في تشكيلها وتحديد برامج عملها. ورغم هذه المروحة من الصلاحيات الواسعة، شكلت بعض المواقف سببا في طبيعة اعمالها، واحيانا استنكاف رئيس الحكومة عن عمله، كما ظهرت بعض الأعراف الدستورية لجهة تمرير اعمالها عبر ما سمي بالمراسيم الجوالة عند نشوء الازمات الوطنية الكبرى، كما حصل مثلا ابان حكومة الرئيس الراحل سليم الحص في نهاية عهد الرئيس امين الجميل، وقبلها حكومة الرئيس الراحل رشيد كرامي ابان عهد الرئيس شارل حلو. ويلاحظ في هذا الشأن ظهور حالات توتر بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية في حالات ازمات الحكم الناجمة عن المواقف السياسية المتصلة بالسياسات الخارجية على سبيل المثال لا الحصر، علاوة على القضايا ذات الصلة بأزمة النظام وطرق اصلاحاته مثلا.

اما حكومات ما بعد الطائف، فلم تخلو من أزمات ذات طبيعة مختلفة ومتعددة، منها ما هو متصل بالصلاحيات، او بأسلوب العمل او علاقة الوزراء برئيس الحكومة وبرئيس الجمهورية. فوفقا لتعديلات اتفاق الطائف باتت السلطة التنفيذية مناطة بمجلس الوزراء مجتمعا، فيما اسند لرئيس الجمهورية بعض الصلاحيات ضمن مجلس الوزراء وبعضها الاخر منفردا.

سبع وسبعون حكومة شكلت منذ العام 1920، كان آخرها في 10 سبتمبر/أيلول 2021 برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي التي تضمنت اربعة وعشرين وزيرا، فيما كلف الرئيس نواف سلام في 14 يناير/كانون الثاني 2024 بعد انتخاب رئيس الجمهورية جوزف عون. وهي حكومة يعلق عليها الآمال الكبيرة نظرا لما مر به لبنان من ازمة حكم وحروب متتالية وفراغ رئاسي استمر لأكثر من سنتين.

لقد شكل خطاب القسم لرئيس الجمهورية تحديا موصوفا لحكومة الرئيس نواف سلام، باعتبارها حكومة العهد الأولى، إضافة الى حجم التأييد الدولي والمحلي الذي نالته، والتي وصفت بأنها الوجه الآخر لتطلعات العهد من اهداف ستسعى الحكومة لتنفيذها.

ثمة عناوين رئيسة وضعت لشكل الحكومة وتوصيفها وما ستقوم به من خطوات تنفيذية. ثمة تجاوز للعديد من الجوانب التي كانت تلاحق تشكيل الحكومات سابقا، لجهة حجم الحكومة التي كانت تصل لثلاثين وزيرا بهدف إرضاء جميع التيارات السياسية والطائفية، إضافة الى احترام بعض الأعراف الدستورية والسياسية المتصلة بنوعية الحقائب الوزارية ولمن يتم اسنادها، إضافة الى حيثيات البيان الوزاري الذي كان يصرف الوقت الكثير على اختيار بعض المصطلحات والجمل لتمرير مواقف ذات طبيعة خلافية بين اللبنانيين، علاوة على الاتفاقات المبطنة حول الكثير من المسائل السياسية والاقتصادية والأمنية والقضائية كما مراكز الفئة الاولى في المؤسسات والمرافق العامة. اذ كانت تجرى عمليات مراعاة للكثير من الحيثيات بدءا من محاولة إرضاء ثماني عشرة طائفة وعشرات الأحزاب والتيارات السياسية، بحيث ان الإعلان عن تشكيل الحكومات في لبنان يعتبر إنجازا بحد ذاته لما تحيط بها من معوقات لا تنتهي.

ان الوضع القائم حاليا يشكل تحديا كبيرا لحكومة الرئيس نواف سلام وخطاب القسم الذي يعتبر برنامجا انقاذيا يتضمن عهودا اطلقها الرئيس جوزف عون، بدءا من الوضعين الاقتصادي والمالي ومؤسسات الدولة لجهة إعادة اطلاقها، إضافة الى إعادة الاعمار بعد الدمار الهائل الذي لحق بالبنى التحتية والاملاك العامة والخاصة، علاوة على السياسة الخارجية والدفاعية المتصلة بالانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان.

ثمة آمال كثيرة تعلق على حكومة العهد الأولى، وهي آمال ذات طبيعة استراتيجية متصلة في الأساس بإعادة تكوين السلطة الدستورية والسياسية والعسكرية والأمنية، اذ ان الفراغ المتواصل في مؤسسات الدولة بدءا من موقع الرئاسة وما انسحب على باقي المؤسسات والمواقع، قد شل عمل الدولة ومؤسساتها وصولا الى تهديد أسس الكيان. فهل ستكون الحكومة الثامنة والسبعين، قادرة على تخطي هذه المصاعب وإعادة لبنان الى موقعه ومحيطه العربي، ودوره الإقليمي المفترض؟