احتكار العقل
الملحد موجود في واقع تتنازع فيه الأفكار والعقائد متشبثا بما يراه حق الحرية، كما المتطرف السائر بنهج "أصولي" أرسى واقع الإرهاب الديني، حقيقة في واقع معاش متوارث.
السينما المصرية اقتحمت بجرأتها هذا الواقع وفضحت مساوئه، وأثره الكارثي على المجتمع في فيلمها الموسوم "الملحد" كاشفة عن صنفين متباعدين متناقضين لن يلتقيا، لا يجمعهما إلا قاسم مشترك واحد هو التطرف في الإلحاد والتطرف في أصولية جامدة تعبث باستقرار مجتمع ينشد بلوغ الثوابت الحضارية.
تنادى الأصوليون دون غيرهم داعين إلى منع عرض الفيلم ومقاضاة العاملين فيه، فهو من وجهة نظرهم يمس بقدسية العقيدة الدينية، قبل أن يشاهدوا مضمون مشاهده السينمائية.
كلمة "الملحد" وحدها هزت فرائص الأصوليين، خيالهم ذهب بهم إلى الاعتقاد بإعلاء شأن "ملحد" وجد المجال في بث فكرة إلحاده في فيلم سينمائي يهزأ بعقل أصولي كتبه الإعلامي "العلماني" المثير للجدل إبراهيم عيسى الرافض لمنطق الأصولية المتطرفة بشكلها ومضمونها.
أحمد السكي منتج لا يضع قدرته ورؤاه في إنتاج عبثي، وهو العارف بالحد الفاصل بين المسموح وغير المسموح في سوق سينمائي يتحكم المشاهد بحركته التسويقية، بعد موافقة الجهاز الرقابي على تقديمه في دور العرض السينمائي، بما يعني أن فيلم "الملحد" عمل سينمائي متكامل استثمر الحد المسموح به في الكشف عن إشكالية يعاني منها مجتمع يختلط فيه المدنس والمقدس عندما تسعى الذات في البحث عن هوية لوجودها.
يدرك الفن دوره في الكشف عن تلك الحقيقة التي لا يرتقي وعي الإنسان إلا بإدراكها حين يرى وقائع تفاصيلها في مشهد حركي حي، قبل أن يحسم الصراع حولها بإعلاء شأن القيم الحضارية الأرقى باعتبارها القاسم الإنساني المشترك.
إشكالية الملحد والمتطرف، إشكالية قائمة، إذا كانت إشكالية بحق، او مجرد ظاهرة كشفتها عملية بحث الإنسان عن معنى لوجوده في إيمان متطرف أو تمرد عبثي، هذا واقع ينبري الكشف عنه دون الخشية من مساوئ علته التي حان الوقت لتشخيصها بتقنيات عصر جديد.
الأصولية المتطرفة تريد اكتساح كل المواقع، وغلق أبواب الانفتاح الفكري المعاصر، بتحريم ما لا يحرم، وتوظيف كل ماهو متاح لفرض نهجها بوسائل الترهيب التي لم يعد يخشاها أحد.
منع فيلم "الملحد" من العرض ووضع ترخيص جهاز الرقابة على المصنفات الفنية في درج إداري بأمر من مسؤول مجهول ربما حسب الأمر حسابا أمنيا يسبق ما لا تحمد عقباه!
رسالة فيلم "الملحد" وصلت لجمهورها المتذوق، وإن حرم من حق المشاهدة، رسالة مفادها: ان التطرف مازال قادرا على غلق أبواب الحياة بوجوه البشر.
يخشى المتطرفون الكشف عن تطلعات العقل البشري في مسار بحثه الإنساني عن معتقد فكري يرتقي بوجوده الذاتي، لأنهم الساعون عبثا إلى احتكار العقل في دائرة معتقدهم الأصولي الوهمي المتآكل في جحور عزلتهم.