"الأسطورة" الإسلامية، هل أوشكت على النهاية؟

تركيا التي أراد الإسلاميون إلصاقها بالإسلام السياسي السائد في الوضع العربي، هي التي سوف تقدم الفارق من خلال الوقائع لا الأوهام.

خلال شهر اذار 2019، خسر مرشح حزب أردوغان أمام مرشح المعارضة في انتخابات بلدية اسطنبول، ورغم أن الفارق بالأصوات لم يتجاوز بضعة آلاف صوت، إلا أن حزب "العدالة والتنمية" لم يحتمل قبول الهزيمة في ضوء خسارته انتخابات أنقرة وأزمير وهما اكبر مدينتين بعد اسطنبول، فطلب إعادة فرز الأصوات. وبعد ذلك اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المعارضة بالتزوير وضغط على هيئة الانتخابات لقبول إعادة الانتخابات بعد ثلاثة أشهر، والتي جاء موعدها منذ أيام. ولكن، وقبل إجراء الانتخابات المعادة، جاءت وفاة الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي أمام محكمة السجن في مصر، وعاد الإسلاميون إلى ترميم خطاب المظلومية بعد خطاب الشرعية طوال فترة سجنه التي أعقبت الانقلاب العسكري على حكم الإخوان عام 2013 وتشتت أعضاء الجماعة بين قطر وتركيا، حيث امتلكوا قنوات إعلامية تروج خطابهم أو ان القنوات الإعلامية الموجودة مثل شبكة الجزيرة تولت هذه المهمة. وكان فحوى خطاب الشرعية "الإنتصاري" أن الانتخابات التي أعقبت الثورة المصرية في بداية الربيع العربي والتي جلبت مرشح الإخوان إلى رأس السلطة في مصر، بعد ثلاثين سنة من المعارضة للنظام السابق ودخول زنازينه، كانت تعبيرا عن طموحات الشعب المصري وتمثيلا لرغباته وتتويجا لأهداف ثورته، فهو إنما كان يتوق إلى حكم إسلامي ينهي عقودا من الأنظمة العسكرية العلمانية، وبسبب ذلك سارع الجيش العلماني بدعم من المؤامرة الدولية والعربية المعادية للإسلام للإطاحة بأول رئيس إسلامي منتخب من الشعب، وبالتالي فان مرسي يرمز لكل آمال المسلمين بالعودة إلى حكم يستند إلى مبادئ الإسلام وحدها. وقد نعى أردوغان من تركيا وفاة مرسي معتبرا إياه شهيدا.

*     *    *

هذا هو خطاب الإسلاميين.. أو على الأقل خطاب جماعة الأخوان المسلمين. ومن نافل القول انه خطاب إيديولوجي، لكنه أكثر سوءا من الإيديولوجيات القومية والماركسية لأنه ينحو منحى الأسطورة، بالمعنى الذي استخدمه رولان بارت في دراسته المعروفة "الأسطورة اليوم" والتي بين فيها ان الخطاب الإعلامي "أسطوري" بمعنى إخفاء شيء وإظهار شيء آخر. ويمكننا – مثلما فعل بارت – من خلال تنحية الشيء الآخر الذي يراد إظهاره، أن نعيد الشيء المخفي للظهور. ولو طبقنا هذه الطريقة على ما ورد أعلاه فيمكننا استعادة الرواية الحقيقية للإحداث من خلال تنحية الأسطورة التي تنشرها جماعة الإخوان المسلمين، واستعادة الواقع دون أوهام. فخسارة حزب العدالة والتنمية هي طبيعية مثل الفوز في بلد ديمقراطي – وان كانت ديمقراطية ناشئة – ولكن بالنسبة لخطاب أسطوري عن عودة الشعب التركي للإسلام مع حزب العدالة والتنمية، وان العلمانيين والقوميين ما هم سوى شرذمة صغيرة وذكرى قديمة من مخلفات حكم أتاتورك ولا يمثلون الشعب التركي – مثلما انه لا توجد قومية عربية - وان تركيا مع أردوغان هي دولة إسلامية، وليست دولة مسلمة فقط، بالنسبة لخطاب كهذا فان المتلقي العربي – وليس التركي - لا يفهم فوز مرشح المعارضة على مرشح حزب العدالة والتنمية، ولم يسمع من قبل ان مرشحي أردوغان لم يفوزوا ولا مرة في أزمير، لان أزمير لا تنتخب سوى القوميين والعلمانيين، وكذلك فوز المرشح العلماني في العاصمة أنقرة ايضا للسبب نفسه. ذلك إن خطاب الإسلاميين الإعلامي لا يتطرق لهذه الوقائع ولكنه يبني صورة وهمية ويطلق أحكام قيمية أخلاقية على السياسات. فأردوغان، المسلم الصادق، انبعاث لحقيقة تركيا التاريخية بعد أتاتورك، بينما خصومه أعداء للإسلام ومتآمرون على تاريخ تركيا مثل تآمر القوميين والماركسيين العرب على الإسلام في البلدان العربية، وانه ليس من رابطة بين المسلمين سوى الإسلام نفسه فلا توجد نوازع قومية او وطنية والصراع بين النظام العربي والأكراد – مثلا – هو بسبب القومية العربية وليس بسبب الأكراد فهم مسلمون لكن الخطاب الإسلامي لا يطبق هذه النظرية على الصراع التركي/الكردي فيتجاهله تماما ولا يتطرق الى ذكر الأكراد أبدا بسبب انحيازه للسياسة التركية. ولذلك فلا يمكن ان يفوز مرشح المعارضة في اسطنبول – بحسب هذا الخطاب - من دون تزوير، بينما الحقيقة أن معظم الأتراك قوميون ويؤيدون علمانية الدولة، ونجاح حزب أردوغان بالوصول الى السلطة بالانتخاب لا يتناقض مع المبادئ الديمقراطية التي أسسها العلمانيون والقوميون إلا من خلال خطاب أخواني هامشي في تركيا تقوم به القنوات الناطقة بالعربية.

ورغم عدم تبني مفهوم الديمقراطية عند كل الإسلاميين الا أنهم يصورون كما لو ان أردوغان ومرسي هما اللذان جلبا الديمقراطية الى تركيا ومصر بينما العكس هو الصحيح اي ان الديمقراطية هي التي جلبت الاثنين للسلطة، وفي تركيا فان الدولة العلمانية القومية هي التي تدرجت بالسماح للديمقراطية ومنعت تأسيس الأحزاب على أساس ديني محض وهذا هو سبب ان حزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي معتدل وليس بسبب مراجعاته الدينية المنفتحة، والسبب نفسه وراء الانفتاح النسبي لحزب النهضة في تونس لان النظام البورقيبي، الذي استوحى نظام أتاتورك جعل التونسيين لا يقبلون حزبا دينيا متطرفا.

أما محمد مرسي، فقد رشحه الإخوان في اللحظة الأخيرة لانتخابات مصر عام 2012 وانتخبه المصوتون لأنه المرشح الوحيد مقابل مرشح النظام السابق، ولان المواطن المصري العادي لم يكن يعرف حزبا معارضا للنظام السابق سوى حزب الأخوان المسلمين. وكان هذا في الحقيقة اتفاقا بين النظام والإخوان عندما اختارهم نظام السادات، ثم مبارك، كمعارضة بينما كان المعارضون الآخرون، من اليساريين والقوميين والليبراليين قد لوحقوا وتم تهميشهم وتحطيم كل أطرهم الحزبية، في مقابل إذاعة أخبار كل أخواني يدخل السجن مدة 15 يوما على قناة الجزيرة. وقد ذكر احد أعضاء الأخوان المسلمين، وهو المحامي مختار نوح، انه عندما اعتقل لأول مرة في عهد مبارك فوجئ بحسن المعاملة التي يتمتع بها الإخوان في السجن وشعر "كما لو أنه ممثل في مسرحية" على حد تعبيره، وأنهم بعد ذلك صاروا اذا تعرض إسلامي غير إخواني للاعتقال فإنهم لتجنيبه التعذيب كانوا يتصلون بالسلطات قائلين ان الشخص المعتقل هو عضو "إخواني". وحتى عندما قامت ثورة يناير عام 2011، فان الإخوان المسلمين امتنعوا عن الانضمام إليها وقد قال مرسي للأعضاء الشبان الذين طالبوا بالاشتراك بالثورة في ميدان التحرير بأنه "لعب عيال"، ولكن شبان الاخوان انضموا للمتظاهرين دون إذن القيادات. وعندما انتخب مرسي رئيسا فقد اثبت انه ليس رجل دولة ولكن الجماعة جعلته يمثل الثورة التي رفضوا الانضمام إليها، كما فشل الإخوان بالحكم من خلاله. وباستعادة الجيش للسلطة من أيدي الاخوان، باعتبار الجيش امتدادا للدولة العميقة، فانه قام بتذكيرهم بأنهم كانوا معارضة احتياطية للنظام السابق، وإنهم خانوا الاتفاق عندما تحولوا لمعارضة انتهازية بالقبض على السلطة دون إذن الجيش، رغم ان السلطة هي التي بنت لهم مكانتهم في أعين الشعب. وكان مرسي ضحية للصراع، وقد ضحت الجماعة بالرجل من اجل الحصول على "رمز" على حساب الرجل نفسه، وقد حصلت على رمزها بموت الرجل في سجنه.

وبعد أيام فقط من وفاة مرسي، جرت انتخابات اسطنبول للمرة الثانية. وقد خاطب أردوغان ناخبيه بان عليهم "إما انتخاب مرشحه عن حزب العدالة والتنمية أو انتخاب مرشح المعارضة الذي هو مرشح السيسي (؟)" وهذا اتهام خارج عن حدود اللباقة، وكانت النتيجة فوز مرشح المعارضة بفارق يفوق نصف مليون صوت – بدون تزوير – وما كان في الانتخابات الأولى مجرد خسارة لحزب أردوغان أصبح في المرة الثانية صفعة، ليس لحزب العدالة والتنمية فقط بل للخطاب الإخواني بدرجة اكبر. فحزب العدالة والتنمية قام بالمناورة على المعارضة عندما طلب إعادة الانتخاب، وهذه براغماتية لا علاقة لها بالأخلاق التي يسقطها الإخوان على سياسات أردوغان، وقد فشل فشلا ذريعا ولكن حزب العدالة والتنمية – باستثناء اهانات أردوغان لمرشح المعارضة - لم يزعم يوما ان تركيا ليست علمانية او ليست قومية بل إن حزب العدالة والتنمية نفسه بحسب الدستور التركي هو حزب علماني، وهذا ما تخفيه قنوات الإخوان وشبكة الجزيرة، فخطاب الإخوان المسلمين اللاجئين إلى تركيا وقطر قد شيد جبالا من الأكاذيب والأوهام..

هل سقوط الوهم مرهون بانكشافه؟

ومن المبالغة القول ان هذه الأسطورة الإسلامية، التي نجحت ومازالت تنجح في خديعة شرائح من الشعب في كل البلدان العربية والإسلامية، هي من إنشاء الإخوان وحدهم، او من إنشاء السادات وحده، ومن المستحيل ان تكون من بنات أفكار حسني مبارك وحده. أما أبو حمزة المصري وأسامة بن لادن، فهم ليسوا أكثر من كومبارس في الظاهرة الإسلامية. لكن منشأ الأسطورة الإسلامية لا يمكن إلا ان يرجع للإعلام الغربي، وهذا يعيدنا الى موضوع دراسة رولان بارت عن الأسطورة الإعلامية، والتي ترجع بدورها إلى السياسة البورجوازية – بكلمات بارت – اي السياسات الطبقية الاستغلالية الساعية للهيمنة عن طريق تحريف الوعي وتحريف الواقع، من خلال الأسطرة. اذ لم يسبق لخطة اخوانية او سياسة من عهد السادات ومبارك أن نجحت دون شراكة مع الآخر البريطاني او الأميركي. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فان تطور هذه الأسطورة عبر أربعين سنة، منذ شعار الصحوة الإسلامية في أواخر السبعينات ونجاحها في التغطية على القضية الفلسطينية في التسعينات بعد الانتفاضة الأولى، ثم صورة الإرهاب الإسلامي الدولي في الحادي عشر من أيلول، وصولا إلى امتطاء الربيع العربي، هذا لا يمكن ان يكون نجاحا من جانب واحد او نجاحا ذاتيا، ولكنه تعبير عن واقع موضوعي هو هشاشة الوضع السياسي العربي وتحطم المجتمعات العربية مع التناسب الطردي بين الضعف والتعرض للإيحاء. فحتى خصوم الإسلاميين من اليساريين والقوميين بدل تفكيك الخطاب الإسلامي كخطاب وهمي وأسطوري، فإنهم يعادونه باعتباره خطاب حقيقي يمثل قوى حقيقية، رغم هلامية الحركات الأصولية مثل القاعدة وغيرها، وكأن خصوم الإسلاميين يحاربون طواحين الهواء، أي أنهم ضحايا الإيحاء نفسه بطريقة عكسية، وهم الذين يسقطون ضحايا للأصولية – مثل فرج فودة – عندما يأخذونها على محمل الواقع فيظنون أنهم سيتعرضون للطعنة من الأمام لكنهم يطعنون من الخلف، ويفشلون في قراءة القوى المهيمنة على الواقع الحقيقي. ولذلك فانه حتى انكشاف الأسطورة كما نشاهده اليوم مع الموجة الثانية من الربيع العربي التي تنأى بنفسها عن الإسلاميين، وحتى مع انكشاف الوهم الإسلاموي، فانه ليس ضمانة لنهاية وظيفة الظاهرة الإسلامية. وهذا دليل على ان محركها ليس ذاتيا بل موضوعيا وليس سقوطها مرهونا حتى بانكشافها بالإضافة إلى أن إعلام الإخوان اليوم أصبح يهاجم الثقافة العربية والعرق العربي بينما كانت إيديولوجيا الإخوان سابقا معادية للايدولوجيا القومية واليسارية فقط وهذه سمة وظيفية وليست إيديولوجيا إسلامية وهدفها إثارة البلبلة والتشتت في المجتمعات العربية وليس تحقيق هدف حزبي او إيديولوجي.

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمرشح الخاسر بن علي يلدرم
ماذا نفعل الان ببن علي يلدرم 

غير إن تركيا التي أراد الإسلاميون إلصاقها بالإسلام السياسي السائد في الوضع العربي، هي التي سوف تقدم الفارق من خلال الوقائع لا الأوهام. فبعد خسارة حزب العدالة والتنمية فان إمامه طريقين لا ثالث لهما فإما ان يفهم رسالة خسارته في اسطنبول، وسوف يبتعد في هذه الحالة عن الخطاب الإخواني ويهمش دعاية الإخوان المسلمين في تركيا، طالبا منهم قصر مبالغاتهم على مصر والعالم العربي، ويرمم بذلك حضوره الوطني والديمقراطي، او أن يكابر ويصر على موقفه وحينها سوف يخسر قواعده نفسها ويخسر الانتخابات الرئاسية بعد أربع سنوات ليعود القوميون او العلمانيون الى حكم تركيا، وإعادة النظام البرلماني ورئيس الوزراء بعدما ألغاه أردوغان وحوله إلى نظام رئاسي شبه مطلق الصلاحية، وهذا احتمال وارد تماما وسوف تظهر إشاراته تباعا عبر السنوات القليلة القادمة، وأما الخطاب الاخواني فقد ظهرت في الحقيقة تباشير ردوده منذ الآن فعلى الرغم من اعترافهم بالهزيمة مع انهم ظاهرة طفيلية على التجربة التركية وإحساسهم بالمرارة من خسارة بلدية اسطنبول، بما يفوق إحساس أعضاء حزب العدالة والتنمية. إلا ان صابر مشهور وهو احد الإسلاميين المصريين المقيمين في تركيا حذر من ان خسارة أردوغان المستقبلية إذا حدثت سوف تعني العودة إلى نزع الحجاب عن النساء المحجبات "بالقوة" في تركيا. فمن خلال مناصرتهم لأردوغان فان الإخوان المسلمين أصبحوا مثل الدب الذي قتل صاحبه، وهذا النوع من الخطاب عن أسلمة الدولة هو الذي اخذ، في الفترة الأخيرة، يخيف المواطنين الأتراك من حزب العدالة والتنمية.