الأكراد واللعب الخاسر على الحبال

أخطأ الأكراد التقدير مرة أخرى. ذهبت أصواتهم عبثا إلى العدو.

بعد فشل مشروع الانفصال الذي عقد عليه الزعيم الكردي مسعود البرزاني آمالا واسعة من خلال استفتاء شعبي كان ناجحا، انكفأ الأكراد داخل اقليمهم مديرين ظهورهم لحكومة بغداد التي لم تكتف بإفشال المشروع بل زادت من جرعة الإحباط الكردي حين طردت الميليشيا الكردية (بيشمركة) من كركوك التي لا يجد الكثير من الأكراد ضرورة لقيام الدولة المستقلة من غيرها.

بخسارة كركوك انقطعت آخر خيوط الثقة بين الأحزاب الكردية والأحزاب الدينية الحاكمة في بغداد. فالأكراد الذين فرضوا على الدستور فقرات تتعلق بالمناطق المتنازع عليها بينهم وبين بغداد كانوا يظنون أن نجاحهم في تطبيق تلك الفقرات من طرف واحد لن يكون عرضة للانتكاس وأن هيمنتهم على كركوك صارت بحكم الواقع أمرا لا نقاش فيه.

ومثلما أخطأوا التقدير في مسألة الانفصال فإنهم أخطأوه أيضا في ما يتعلق بشرعية وجودهم العسكري في كركوك، المدينة الغنية بالنفط التي تتميز بتعدد القوميات التي تقيم فيها.

أضرب الأكراد عن المشاركة في الحياة السياسية في بغداد، بعد أن كانت لهم مساهمات خطيرة في اللعب بين الأحزاب الطائفية المساهمة في الحكم في بغداد، انطلاقا من ايمانهم بأن الخلافات المستمرة بين تلك الأحزاب وهي خلافات على المغانم انما تقوي موقعهم من جهة ما يمثله موقفهم من نصرة لهذا الطرف أو ذاك. كانت الحاجة إليهم هي مصدر شعورهم بالقوة.

غير أن أحزاب الحكم في بغداد وبعد الموقف الأميركي البارد من مسألة الانفصال شعرت بأن في إمكانها الاستغناء عن أي دعم كردي قد يجلب لها المتاعب والشكوك. وهو ما دفع بالأكراد إلى أن يختاروا العزلة أسلوبا لمعاقبة حكومة بغداد المنتصرة في انتظار أن تعود الأحزاب إلى سيرتها الأولى في الخصام ومن ثم في الحاجة إليها.

وهو ما حدث فعلا حين جرت مناقصة انتخاب رئيس مجلس النواب الجديد. حينها باع النواب الأكراد أصواتهم إلى الجهة التي يظنون أنها ستخفف عنهم غضب إيران حين يتقربون منها. ولكنه سلوك انتقامي ليس إلا. فإيران التي استعملت الأكراد عقودا للإضرار بالعراق لا يرضيها أن تكون كركوك من حصتهم وهي تعرف أن في قوتهم خطرا عليها.

قد لا تصل محاولة اللعب على الحبال بالأكراد إلى شيء من أهدافهم، غير أنها في المقابل تفضح خلو سلوكهم من أية رغبة في المساهمة في بناء دولة مشتركة. إنهم يصرون على الاستمرار في نفعيتهم، بما يجعل من اقليمهم كيانا طفيليا لا يمكن الثقة بمستقبل علاقته بالعراق الذي صار بضغط منهم فيدراليا، من غير أن يكون في حاجة إلى ذلك.

لقد قال الأكراد كلمتهم الأخيرة من خلال الاستفتاء الذي أجري عام 2017. إنهم لا يرغبون في الاستمرار في عراقيتهم التي صارت تشكل عبئا ثقيلا عليهم. وهو أمر محرج للجميع لا لأسباب وطنية كما قد يتوهم البعض بل لأسباب إقليمية يقف في مقدمتها الموقف الإيراني الذي يرى في قيام دولة كردية في شمال العراق نذير شؤم يمكن أن يشجع أكراد إيران على تصعيد القتال ضد الدولة المركزية.

أركز على الموقف الإيراني هنا لأن ممثليه في العراق هم الذين خصتهم الزعامة الكردية بانحيازها الذي تنتظر بسببه مكافأة قد لا تصل. وهو ما كان على الأكراد أن لا يغفلوه.

لقد أخطأ الأكراد التقدير مرة أخرى. ذهبت أصواتهم عبثا إلى العدو.

ليس المطلوب منهم أن يكونوا حصانا في سباق عبثي.

غير أن النصيحة الوطنية لا تنفع في الوضع الرث الذي يعيشه العراق.

الأحزاب كلها في العراق لا تملك بوصلة وطنية فلمَ نطلب من الأحزاب الكردية أن يكون لها مثل تلك البوصلة؟