الأمل محرّرا للطاقات في 'مرفأ الحكايا' لرياض جراد

قد يكون البحث عن الخيط الناظم للمجموعة القصصية أو المشروع الذي تنضوي تحته هذه الأقاصيص خطوة أولى لاختراق عالم التخييل واستجلاء بعض الدلالات الكبرى.

تمثل الأعمال الإبداعيّة المتميّزة نبعا لا ينضب للقارئ والناقد المتمعّن إذ تتجدّد مع كل قراءة الفرضيّات والتأويلات وتتنوّع المداخل فتعجز عن محاصرة الدلالات وكشف أسرار الصياغة وجمالياتها واستكناه الأبعاد المختلفة التي تستثيرها هذه الأعمال أو تتولد منها. هذا بعض ما يتأكد مع مجموعة د.رياض جراد القصصية  "مرفأ الحكايا" (ط1 تونس 2022) وهي السابعة في كتبه القصصية.

إذ يبدو أن مقاربة بعض مقوّمات شعرية هذه القصص ومكامن الجمال في صياغتها لا تكفي ولا تشفي عطشا تبقي عليه القراءة الأولى وربما الثانية. فإذا العودة إلى التفكيك والبحث ضرورة رغم غموض شبكات الدلالة واتساعها وحتى إلغازيتها أحيانا. ذلك أنّ ميزة الأقصوصة حسب تياري أوزوالد "تكمن في إلغازيتها أي في مهارتها والعناد الذي تبديه لتجريد القارئ من كل أسلحته". (تياري أوزوالد: الأقصوصة، ترجمة محمد آيت ميهوب، دار سيناترا، ط1، تونس 2013، ص78) وكأنها في سعيها ذاك قد حفّزت في القارئ روح التحدّي لفكّ الطلاسم واختراق الحجب واجتراح لذّة الاكتشاف.

قد يكون البحث عن الخيط الناظم للمجموعة القصصية أو المشروع الذي تنضوي تحته هذه الأقاصيص خطوة أولى لاختراق عالم التخييل واستجلاء بعض الدلالات الكبرى. والمدخل الأول هو قراءة المناصات والعتبات متمثلة في العنوان والإهداء ثم "حكاية الستة" التي افتتح بها الحكايا . فالمرفأ في العنوان إيحاء بالانفتاح (على البحر واليابسة)، وهو فضاء استرجاع الطاقة قبل الإبحار من جديد . والإهداء "إلى الذين حطّموا أقفال سجن جلبوع بملعقة" علامة أخرى على انفتاح الفضاء وإمكانية الحلم واستعادة الحرية وتجاوز الحدود مهما كانت الوسائل ضعيفة. وليست "حكاية الستة "التي جاءت بعد الإهداء إلا صياغة جديدة لما جاء في الإهداء أي قصّة الأسرى الفلسطينيين الذين تحدّوا قوّة الكيان الصهيوني واستطاعوا الفرار من السجن رغم محدودية الوسائل... وذلك في تناصّ واضح مع النصّ القرآني وقصّة أهل الكهف تأكيدا لعودة  الحياة بعد الموت.

كل هذه المناصات علامات مضيئة على أمل وليد ..على حلم سينتشر في جلّ أقاصيص المجموعة ويمثل عبر الأحداث وخاصة عبر الشخصيات القصصية الفكرة التوليدية والناظمة للمجموعة.. أو هي "اللازمة "تتردد أصداؤها وإيقاعاتها في الحكايا .فإذا الكاتب حتى وهو يصغي إلى أصوات المهمّشين والكادحين والمظلومين، يسعى إلى إعلاء صوت الأمل ونشر روح التحدّي، جاعلا الحلم مع الفعل سلاحا لمواجهة البؤس والقبح والظلم في هذا العالم.

تتعدد مظاهر القبح والبؤس في "مرفأ الحكايا"، تهجس بها الشخصيات في خطاب مباشر حينا وفي استعارات موحية أخرى. يكتب الطبيب بعد عجزه عن تشريح جثتي شيخ وعجوز: "سبب الوفاة على الأرجح حاكم ظالم ومجتمع ضنين وجار مهمل وابن عاق وأخ أناني وصديق غير صادق ..نحن جميعا السبب" (حكاية تقرير)، غير أن هذا الحكم المباشر والصرخة إزاء الظلم ستتحوّل في بقية الأقاصيص رموزا وإشارات ذكية وسخرية جارحة، منها ما ورد في "حكاية مناضل" من تعريض بالانتهازيين الذين يتاجرون بمفهوم النضال في سبيل تحرير الوطن ويسعون إلى جعله مصدر ربح مادّيّ مطالبين بمقابل ومكافأة.

من مظاهر القبح ما يسود المجتمع من احتكام إلى المظاهر ونزوع إلى إطلاق الأحكام الجائرة بناء على المظاهر (حكاية تعويذة – حكاية أمومة) ومن هيمنة البيروقراطية وتكلس  الإدارة والقضاء استنادا إلى قوانين تقتل في المواطن كل حماس وعزم (حكاية سقوط) ومنها ذلك الركون إلى تقبل الوضع السائد والرضى بالاستغلال ورفض الاتحاد لمواجهته (حكاية ثائر شلوح).

غير أن صوت الأمل في ثنايا الحكايا وفي نهايات الأقاصيص سيبقى هو الأقوى .وصورة الأسرى الفلسطينيين الذين حطموا الأقفال في سجن اسرائيل ستخترق كل الحكايا تقريبا، هي الصورة المحورية التي تجمّع الأقاصيص في هذه المجموعة: تحطيم الأقفال وتحدّي الأسوار والقيود.. الأمل هو الفعل المحرّر للطاقات الذي يحيي الموات. لكن كيف يمكن للأقصوصة أن تقاوم اليأس والخنوع ؟ أن تبني الإرادة وتزرع الحلم؟

لعلنا نجد في الشخصيات التي رسمها الكاتب في عالم القصّ والحكي بعض الجواب.. هي غالبا شخصيات ترفض الاستكانة إلى المواضعات والتقاليد والخرافات وكل ما تكلّس في العقول. تقاوم اليأس والخنوع بعزم قويّ حتى وإن كان الحلم يبدو في الظاهر مستحيلا. شخصيات تؤمن بأن الحرية قدرها (حكاية ثائر شلوح) حتى لو لفظها المجتمع،تواجه الموت بالعلم لا بالخرافة، وتعمل على أن تحوّل الخرافة  لتبني أسطورتها واقعا جديدا. ففي "حكاية تعويذة " صورتان للإنسان وهو يواجه الموت: الأمّ تخاتله بالخرافة معتقدة أن تسمية رضيعها "العيفة "يمكن أن يكون حلاّ ليعافه الموت فلا يلتحق بإخوة له هزمهم.

والطبيب (هو نفسه ذاك الذي عافه الموت) يكبر لكنه يقرّر مواجهة الموت بالعلم طبيبا جرّاحا. وفي "حكاية مشكاة" يرفض الجدّ أن يقصّ على حفيده حكايا الغيلان تخيف البشر وتغالبهم " يا بنيّ، ما عادت حكايا الغيلان تخيف ولا تلهب الخيال،وقد تلفت وتقادمت وصارت سخيفة... لنترك الغيلان ووهمها ونحكي حكايا أحلام نحققها " ص21. لذا كانت الشخصية القصصية التي اختارها الجدّ هي شخصية أب يرتحل عن القرية  فيهتدي في رحلته إلى ضرورة بناء سدّ يحمي الديار فيغير بذلك  حياة القرية بعد جفاف وشحّ الزاد.

الشخصيات في "مرفأ الحكايا" ليست أسطورية ولا تنتمي إلى عالم الخرافة لكنها مع ذلك قادرة على صنع أسطورتها وتحقيق أحلامها ذلك أنها "تتوكأ أحلامها لترحل إلى الشمس"، وتحقق بذلك ذاتها وتستعيد معنى الحياة والوجود.

لعل أجمل مثال لهذا الإصرار والمغامرة والعناد في مغالبة الشدائد هو الشخصيات في "حكاية حلم"، ورغم أن التبئير كان على شخصية الرسّام، إلا أن كل الشخصيات المصاحبة لها تدعم فكرة أهمية مطاردة الأحلام ومغالبة الصعاب والحدود. لذا نرى الرسام في نهاية القصة قد انتصر على عجزه (قطع يده اليمني بعد حادث في الطريق) وقد صارت يده اليسرى "قادرة على ترجمة شعوره ورؤاه فتستحيل رسوما ساحرة" ص56.

ويتجلّى التحدّي في ذروته لدى الشخصية حين تتحوّل في نظر الآخرين صنما أو "صنبة" (حكاية أمومة) لأنها لا تقيم وزنا لأحكام الناس المتسرّعة واحتكامهم إلى المظاهر الخادعة. هو صنم في تقديسه للقيم الإنسانية واحترامه خاصة لقيمة الأمومة،ومساعدته تلك الأم التي لم يغفر لها المجتمع عاطفة تجاوزت بها القوانين والتشريعات.. هو صنم لا تحرّكه الإشاعات والخصومات التافهة والشتائم والألفاظ المنفلتة من عقالها رغم تظاهر أصحابها  بالورع.

والكاتب رياض جراد هو، كما جاء في وصف بعض شخصياته، ذاك الذي "يتوكأ أحلامه ليرحل إلى الشمس حين تأفل نجوم الروح ويفقد كل شيء بريقه".

والشمس التي يرحل إليها هي تلك التي يرى المتلقي في نورها ذاته والتي يستعيد بإشراقها معنى الحياة والفعل،أو يبحث في نورها عن المعنى المفقود .لكن بأيّ آليات رسمت قصص المجموعة هذا المعنى وكيف استطاعت أن تنقل القارئ إلى عالمها؟

يرى بعض المنظّرين أن شعريّة الأقصوصة تقوم على ركائز ثلاث هي التركيب (montage) والتقابل بين المقدمات والنتائج والتماثل، وهي سمات أو مقوّمات تتوفر بكثافة  في "مرفأ الحكايا" وتبني شعريّة القصص فيها.

ففي "حكاية تعويذة " مثلا نلحظ هذا التقابل في صراع الإنسان مع الموت عبر نسيج من المفارقات جسدتها شخصيتان،شخصية الأم وشخصية الطبيب إذ يواجه الموت بالمعرفة لا بالخرافة  ممتشقا سلاح العلم في قاعة العمليات. ومع ذلك يبقى السؤال قائما في ذهن المتلقي في نهاية القصة :هل يمكن فعلا تجاوز الأوهام والخرافات التي تعشش في العقول حتى لو انتصرنا بالعلوم على الموت ولو لبعض الوقت؟

يشكل التقابل أيضا عماد شعرية القصّة في "حكاية سقوط" حيث تتأرجح صورة الوطن بين مشهدين أو لوحتين. لوحة ترسمها مخيّلة أستاذ مختصّ في تاريخ الوطن، يسافر في أرض أجداده مستعيدا أمجادها فينشأ لديه شعور قويّ بالفخر والاعتزاز والانتماء إلى الوطن. ولوحة ثانية يُحشر فيها نفس الأستاذ في حجرة الإيقاف ويجرّ مكبّل اليدين إلى المحكمة العسكرية دون أن يفهم سبب إيقافه، ولا يعلن القاضي براءته إلا بعد أن تكون مشاعر القهر والظلم قد حفرت جروحا في ذاته. وبذلك يتولد السؤال الأهمّ: ماذا بعد هذا الشعور بالقهر والانحدار والسقوط؟ هل هو سقوط الوطن أم سقوط الإنسان ؟ كيف سيولد الحلم من جديد؟  

ورغم أن التقابل يبقى قائما أيضا في "حكاية حلم" فإن أهمّ ما يمثل شعرية هذه القصة ويؤكد طرافتها هو انبناؤها على ضرب من التركيب السينمائي (المونتاج) حيث تتشكل لقطات ومشاهد متباعدة زمانا ومكانا تتنوع فيها الشخصيات، لكنها تتماثل في نهاياتها في ضرب من اللازمة الشعرية تردّد عبارة واحدة هي "الأحلام لا تموت".

تتالى المشاهد في "حكاية حلم" بدءا من المرأة العجوز ترسل من روحها شعاع الحب والأمل وهي تعدّ صغيرها للذهاب إلى المدرسة "حيث الأحلام لا تموت". يليها مشهد المعلم الشاب يدرّس تلاميذه الفنون بوله العاشق ويدعوهم إلى مطاردة أحلامهم. ثم مشهد الجدّ يروي لحفيده حكاية أمّه طبيبة الأسنان التي لم تستكمل حلمها في حياتها فطلبت قبل موتها أن يُعرض بحثها ويناقش حتى أمام كرسيّ شاغر ليبقى مرجعا للطلبة والجامعة بعدها.

آخر المشاهد في "حكاية حلم" يتشكل في صورة الشاب (طفل الأمس) وقد أصبح رساما يقيم المعارض،غير أنه يفقد في حادث مرور يده اليمنى فيدعوه طبيبه إلى مواصلة الرسم ولو باليد اليسرى "ما دام عقله يفكر وقلبه ينبض".

هي لقطات سينمائية مختصرة وسريعة يسترجعها الرسام من الذاكرة وهو يقف أمام قاعة العرض التي جمعت لوحاته بعد أن أثبت بفرشاته،وبيده اليسرى، أن "الأحلام لا تموت".

لكن هل باحت الحكايا بكل أسرارها؟ هل وفّرت للمتلقّي في لحظات الكشف والتنوير (نهاياتها) بلسما لجروحه أم جعلته يستغرق في الحيرة باحثا عن المعنى الغائب؟ هل وفرت الحكايا بعض الطمأنينة للذات القلقة حتى لو ارتحلت مع شخصياتها إلى الشمس وامتطت الحلم؟ ما يمكن أن نخلص إليه هو أن قصص رياض جراد في "مرفأ الحكايا"، بما قامت عليه من ثنائيات أهمّها ثنائية الخيبة والتحدي وبما توفرت فيها من شعرية مكثفة ورمزية شفافة، تبدو أقرب إلى محاولة إعادة بناء ما تداعى وتهدّم من العالم، أو هي توق لاستعادة الحلم المفقود في واقع يسوده القبح واليأس والخنوع، هي شحنة أمل للذات القلقة تشحذ عزم القارئ وخياله علّه يداوي  بها بعض أوجاعه.