الإرادة والعدم في فلسفة شوبنهاور

الفيلسوف الألماني يرى ان الإرادة العمياء تحرك العالم وانها تتمركز في كل عضو من أعضاء جسم الإنسان وفي كل حركة يقوم بها الجسم، فالكل يتجه نحو رغبة ما نحو شيء ما لكنها رغبة لا واعية تشبه تلك الموجودة في أدق الكائنات المجهرية.

إن التناقض المرعب بين الذات والموضوع، بين ما يحمله الإنسان من آمال وأحلام ومثل عليا وبين العالم بكوارثه وحروبه، هو من جعل الفلاسفة الوجوديين يعيدون بناء النظر في ماهية الفلسفة والعودة إلى الذات الإنسانية بوصفها عالما مستقلا له حريته وخياراته المتعددة بعيدا عن العالم الواقعي الذي فشلت الفلسفة العقلانية في تفسيره.

من هنا جاءت فلسفة شوبنهاور وتجاربه الخاصة في الحياة لتغوص عميقا في علاقة الإنسان مع العالم الخارجي بوصفها خيارا وجوديا يمكن أن يتبناه الفرد.

يقيم شوبنهاور فلسفته على أساس وجود الظاهرة وتمثلاتها الصورية، وبين الذات المدركة لهذه الظاهرة، الذات الفاعلة التي تملك الإرادة، ثم يدمج بينهما لتكوين رؤيته المتكاملة للعالم في كتابه العالم إرادة وتمثل .

اعتمد شوبنهاور في فلسفته على ثلاثة ركائز فلسفية وهي:

 1- فلسفة كانط

2- نظرية المثل الأفلاطونية

3- الأوبانشادز

تأثر شوبنهاور بأراء كانط حول المقولات القبلية للعقل كالزمان والمكان والسببية، وعدها عناصر مهمة للعقل في فهم الظاهرة وإدراكها، ثم تبنى أيضا مفهوم الشيء في ذاته لكانط.

يرى شوبنهاور إن الإرادة العمياء هي التي تحرك العالم، فهي تقبع في داخل كل الموجودات الحركية، من نبات، وإنسان، وحيوان، وكل إرادة في الكائن الحي تعبر عن رغبتها في البقاء والاستمرار، من خلال الصراع مع إرادات أضعف والتغلب عليها لذلك فإن جوهر الشيء يختلف عند شوبنهاور عن كانط، فكانط يرى أن جوهر الشيء خفي وغير مدرك بالحواس البشرية، أما عند شوبنهاور فالشيء في ذاته هو الإرادة التي تتناسل لتتصارع، وتحيا، ثم تستمر في البقاء.

والإنسان كأي كائن حي في هذا الوجود تحركه هذه الإرادة بل ان إرادة الإنسان أقوى الإرادات الموجودة في هذا العالم لأنها إرادة واعية، ويرى شوبنهاور إن الإرادة تتمركز في كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، وفي كل حركة يقوم بها الجسم  ويتجه نحوها سواء كانت خارجية في  تحريك الأطراف والمشي، أوفي الكلام، أو حتى في الحركات الداخلية لجسم الإنسان من حركة الأمعاء والشرايين والقلب، فالكل يتجه نحو رغبة ما، نحو شيء ما، لكنها رغبة لا واعية تشبه تلك الموجودة في أدق الكائنات المجهرية.

تصبح صورة الألم متحققة في ذهن الإنسان عندما تتحول الإرادة اللاواعية إلى إرادة واعية، فالإرادة عند الإنسان في نظر شوبنهاور لا حد لها ولا انتهاء، وهي عبارة عن سلسلة متوالدة من الرغبات التي تعتبر مصدر الشقاء والتعاسة عند الإنسان في حال عدم إشباع هذه الرغبات، وفي حال إشباعها يصيب الإنسان الملل والفتور والتفكير في رغبة أخرى لسد حاجة أخرى ألم يقل شوبنهاور:."إن الحياة كالبندول تتأرجح بين الألم والملل".

الخلاص المؤقت بالفن

حاول شوبنهاور أن يمزج الفلسفة الكانطية والمثل الأفلاطونية في فلسفته، حيث وجد في المثل تجسدات مباشرة للإرادة أو للشيء في ذاته، لذا يرى شوبنهاور في الفن خلاصا ً من عبودية الأرادة المحطمة للإنسان، إذ يتخلى الفنان في العمل الفني عن أرادته، أو تنصهر تلك الإرادة في العمل الفني عن طريق الإبداع والتأمل، ليحقق رؤية المثل الأفلاطونية. فعند تأمل الشيء الجميل أو الجليل تذوب ذواتنا في جوهر الشيء ونتحرر من الزمان والمكان والسببية.

ويضع شوبنهاور العبقرية في بداية طريق الخلاص من الإرادة، وذلك لأن العبقرية قائمة على سيادة الرؤية المستبصرة والتأمل النزيه المجرد من الإرادة ونوازعها، حيث يتجاوز الفنان الجزئيات إلى رؤية الكليات وتتكشف له ماهية الأشياء في نظرة حدسية خالصة منزهة عن الإرادة الذاتية .فالمبدع أو العبقري هو الذي يستطيع أن  يتعرف  على المثل في الأشياء.

وأن يتخلص من فردانيته، لتصبح ذاتا ً معرفية خالصة من خلال العلاقة مع المثل الذي لا يتغير أبداً، ويعطينا اللذة الجمالية المنزهة عن الغرض أو المصلحة. بهذا يكون الفن هو خلاصا للإنسان من عذابات الحياة وشرورها ومن الألم الذي تخلفه الإرادة، لكنه خلاص مؤقت، فيا ترى ماذا اقترح شوبنهاور للتخلص التام من دورة الألم في هذه الحياة القاسية؟

النيرفانا والخلاص النهائي

اختار شوبنهاور كخلاص نهائي من ألم الإرادة وشقائها الأخلاق، ومن ضمنها الفضيلة وإنكار الذات والزهد، وهو بهذا يعتمد فلسفة الأوبانشادز الهندوسية التي تؤكد على فكرة المعاناة في الحياة وعلى ضرورة الزهد والتقشف كوسيلة الخلاص، حيث يقترح شوبنهاور على الإنسان إنكار الحياة وعلى إهمال الجسد وغرائزه وتقبل الألم بكل حفاوة وسرور لأن الزاهد لم يعد يهتم لإرادة الحياة، ولا لحاجات الجسد البيلوجية، ويعيش الإنسان هنا العدمية بكل تجلياتها لكنها عدمية سلبية لأنها تهمل الغرائز الأصيلة والجوهرية لتي خلقتها الطبيعة في الإنسان، أما السعادة  تكمن في أن يصل  الإنسان للحظات الاستنارة الروحية، وهنا تكمن سعادته في النيرفانا حيث يصبح الإنسان روحا ً خالصة وجسدا ً معدما خارج دورة الحياة.

رغم النزعة الإنسانية في فلسفة شوبنهاور والتي استطاعت أن تغير مجرى الفلسفة إلى العالم الباطني لدى الإنسان وعلاقته مع العالم الخارجي، إلا إنها تعتبر فلسفة انهزامية لم تستطع مواجهة الألم، ولم تبتكر الحلول، إلا فيما يخص نظريته في الفن وفلسفة الجمال، فالإنسان ابن هذه الطبيعة ومحكوم بقوانينها في الصراع والبقاء وتوكيد الذات، وبالرغم من الأحزان والشرور التي ابتلي بها شوبنهاور في مطلع حياته، إلا أنه كان ابن عائلة غنية ضمنت له حياة مستقرة، ثم حظي فيما تبقى من عمره بالشهرة والمنصب مستسلما لرغباته ومنصاعا لإرادة الحياة القوية في داخله.