الاحتفال بالكريسمس، بدعة أم مكرمة حسنة؟

تتنازع المسلمين في الغرب تجاذبات تقبل ثقافة الآخر وخشية السقوط في البدع.

لا يكاد يدخل علينا شهر ديسمبر وإلا نجدنا في خضم حقل جدالي حول الكريسمس يفرزنا بفعل مشاداته إلى جماعتين غير متصالحتين. عند أحدى الجماعتين يتلبد خطاب يقيم حجته على أن المشاركة بالكريسمس تعكس بعدا حضاريا ومدنيا، وعند الطرف الآخر يتكثف خطاب آخر يقول أن الاحتفال بمولد النبي عيسى (عليه وعلى أمه السلام) بدعة دينية محرمة.
لا أنكركم الحديث إني كنت أحد الواقعين تحت تأثير هذه التجاذبات. كانت سجيتي المتسامحة تدفعني إلى تقبل ثقافات الآخر وكانت ثقافتي المتخشية من السقوط في وحل البدعة تنصحني بعدم خوض غمار المعصية. إنه انقسام فكري يخوضه أغلب المهاجرين في ألمانيا.

قمت بتجميع مقالات من يعتبر الاحتفال بمولد النبي عيسى (عليه وعلى أمه السلام) بدعة دينية محرمة لمناقشة كل مقالة على حِدَةٍ.

المقالة الأولى: أن الكريسمس عمل لم يهتدِ إليه الرسول (ص)، وهو خير البشر، فإذا فعلناه نحن، ففيه شبهة الادعاء (بشكل غير مباشر) إننا أهدى منه (ص) بإتيان عمل خير لم يفعله.

كلنا يعلم أن المنتجات الدينية الحديثة تصنف كمنتجة سيئة وتسمى بدعة أو تصنف كمنتجة جيدة وتسمى حسنة. فلقد أنتج الصحابة في الدين أفعالا لم يمارسها الرسول (ص) فأثنى الرسول عليهم. فمثلا كان أحد الصحابة عندما يؤم الناس في الصلاة كان يختم في كل ركعة بسورة الاخلاص. وهذا ما لم يكن يفعله الرسول (ص).

فقد ورد في بخاري ومسلم قصة هذا الصحابي الذي سن سنة حسنة في حياة النبي (ص):

عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ لا يَقْرَأُ بِأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ ـ تَعْنِي يَخْتِمُ ـ إِلاَّ بقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُحِبُّهُ.

وهناك صحابي آخر أنتج أدعية في الصلاة بصيغ لم يتلوها الرسول (ص) ومع هذا أثنى الرسول عليه.

كما جاء عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِىِّ قَالَ:

كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِي (ص)، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ: رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلاَثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا، أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أَوَّلُ. رواه البخاري.

الذي فهمته من الحادثتين الآنفتين أن الرسول (ص) واسع الفهم بالطبع البشري وكان يعلم بالحتمية البشرية من لابديـّة إنتاج السنن الحسنة فكان ينتظر من أصحابه إتيان ما لم يأتِ به ليدربهم على إنتاج السنن الحسنة. ولم يفهم الرسول (ص) ولا الصحابة عندما أنتج بعض الصحابة منتجات حسنة بأن الصحابة كانوا بفعلهم هذا يدعون بأنهم أعلم أو أخير من الرسول (ص).

المقالة الثانية: كل منتج ديني بعد الرسول (ص) بدعة.

مقالة تتجاهل استمرار سنة إنتاج المنتجات الحسنة في الدين. فلا يجوز تعطيل الانتاج الحسن بحجة أن كل محدثة بدعة فهناك تصنيف آخر وهو إنتاج السنن الحسنة ولابد من استمراره. فهاجس الخوف من إنتاج بدعة يجب ألا يكون على حساب إنتاج السنن الحسنة وإلا فإنه تورع يعطل حديث آخر وفي هذا خطأ جسيم.

ولقد أنتج الصحابة بعد رحيل النبي العظيم ص عدة منتجات دينية حسنة منها اختراع السنة الهجرية ومنها اختراع تنظيم صلاة التراويح في كل ليال رمضان وهذه من المنتجات الحسان.

"من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا." خرجه مسلم في صحيحه.

المقالة الثالثة: منها أنه لا يعرف أحد على وجه الدقة يوم مولد عيسى (ع). فأهل الإنجيل لا يتفقون عليه.

هذه المقالة يدحضها فعل الرسول (ص). فبعد هجرته المباركة إلى المدينة، لاحظ الرسول أن اليهود يمارسون احتفالا دينيا يتعلق بنجاة موسى (ع) وجماعته في عبورهم البحر بسلام هربا من اضطهاد فرعون مصر. حينها أقبل الرسول (ص) بسن سنة حسنة تحوم حول مشاركة شريك الأرض (من يهود ونصارى) أفراحهم ومناسباتهم الدينية والثقافية.

الذي يعنينا هنا هو أن الرسول (ص) لم يطالب اليهود بإقامة الدليل على أن اليوم الذي اختاروه اعتباطا هو فعلا يصادف اليوم الذي عبر فيه موسى (ع) البحر. بمعنى آخر شارك الرسول (ص) وأصحابه في يوم احتفالات اليهود كما اتفق اليهود أنفسهم على ذلك اليوم دون منازعتهم.

المقالة الرابعة: تحديد يوم معين للتعبير عن حب عيسى وأمه (ع) عليهما تحجير على واسع بل يجب حبه كل لحظة ودقيقة.

لقد وقت الله الخبير واللطيف بالإنسان كل عباداته في أوقات وأزمنة خاصة وهذا لأن سجية الإنسان تنتظم في إطار زمني. ولم أسمع أن أحدا اعترض على فكرة التعبد في إطار زمني معين بأنه خطأ إلا في إطار أراء شاذة تفتقر إلى سند عقلي ونقلي.

الرسول (ص) لم يقل لليهود إن حب موسى (ع) ورفاقه في قلبي (بالرغم من أنه كذلك)، ولن أخصص يوما معينا للاحتفال بنجاته، بل إني سأحتفل بنجاته كل لحظة وثانية (وهذا ما يفعله) وأن ما تفعلونه بتخصيص يوم لذلك بدعة (هذا ما لم يفعله).

والذي فعله الرسول (ص) أن قبل ما تفق عليه القوم من أتباع الديانات الأخرى وشاركهم تخصيص يوم معين للإحتفال دون أن يكون التخصيص إلغاء لمحبته في بقية أيام السنة.

عليه فإن تخصيص يوم لإحياء ذكرى مناسبة جميلة من مثل نجاة موسى من فرعون أمر جميل جدا.

المقالة الخامسة: فعل جميل يصاحبه أفعال سيئة.

ما يصاحب أي احتفال من مثل عيدين الفطر والحج من أعمال غير لائقة عند أهل التقى لا يعني إلغاء الفرحة بالعيدين. هذا أمر لم يقل به أحد من الأولين ولا من الآخرين. وعلينا التذكر أن: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (من خير أو شر) رَهِينَةٌ.

الكريسمس من مكارم الأخلاق

فكرة الاحتفال بمولد النبي عيسى (ص) فكرة جميلة. بل هي من مكارم الأخلاق. فميلاد كل المصلحين من أنبياء وغيرهم يوم سعدت به الأرض ومن عليها من بشرية. وعلى كل محبي الخير للبشرية التشبث بشتى الإحيائيات وتجنب الأخطاء والإساءات.

فسلامي على عيسى وأمه وعلى جميع الأنبياء والصالحين والصالحات وسلم تسليما كثيرا وكل كريسمس والحب والمحبين في خير وسلام وصحة وعافية.