فقه "التعضل" القرآني ومطلب ولاية يتكافأ فيها شركاء المصلحة

لا يجب أن نستثني في زمن متعولم بثقافات كونية من إستثناء تعضل المرأة في صيغة البنت أو الزوجة على الرجل.

هذه المقالة توسع مداركنا في فهم الخلل الذي يشوب علاقاتنا الثقافية الحاكمة بين الرجل والمرأة من خلال الحفر في معاني قرآنية قديمة طمرها الوعي بفعل عوامل ذكورية وأصبحت جزأ من النسيان.

فالطفلة تكبر وبعد زمن تنضج قدرات الفتاة والشاب على فهم الحياة ومن فهم المصلحة ومن المساهمة في تشكيل مضامينها مع رب الأسرة. فمن المتوقع أيضا أن تستجد مواقف لا يتفق فيها الأب مع إبنته على تشخيص ذات المصلحة. مثل هذا الإختلاف في تشخيص المصلحة بين الأب وبنته تطرق إليه القرآن العظيم كما فطن فقهاء الإسلام القدماء (مثل ابن قدامة في المغني 7/368) إلى تطرق القرآن العظيم إلى هذه الظاهرة تحت عنوان "تعضل" الرجل على المرأة.

قال تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا “تَعْضُلُوهُنَّ” أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.)

قديما قال الفقهاء بحرمان تعضل الأب على بنته ويقصدون بذلك عندما يفرض الأب رأيه بشكل يخل من تحقيق المصلحة التوافقية المتفق عليها بينه وبين أفراد أسرته وذلك في حالة منعها من الزواج بكفئها من رجل تحبه وترغب به ويرغب بها. أي أن الأب يرى بمصلحة غير تلك المصلحة التي تراه أبنته. وهذا أمر منهي عنه في القرآن. إذ يجب أن تخوض الأسرة حوار متكافئ بين الولي وموليته للتوصل إلى مصلحة متفق عليها. قال الفقهاء القدماء أن في حالة ما إذا تعضل الولي بفرض رأيه على موليته في قضية الزواج تسقط في هذه المسألة ولايته لعدم جدارته بأن يكون ولي توافقي وتنتقل الولاية في هذه المسألة إلى الولي الأبعد من مثل الجد. بل يسمى الولي إذا تعضل على بناته في قضية الزواج فاسقا وتسقط عدالته وولايته. بل إنه على المشهور من مذهب الإمام أحمد تسقط حتى إمامته فلا يصح أن يكون إماما في صلاة الجماعة في المسلمين.

على المستوى العامي لا يوجد أحد منا لم يسمع بتعبير "لا تتعضل علي" أي لا تشتد علي، أي لا تمنعني عن مرادي، أي لا تغلق الأبواب في وجهي. ولكن والغريب لا نجد أن فقهاء زماننا يثقفون الجماهير بأنواع التّعضلات وحدوده.

الملفت أن عاميتنا ليست فقط ملمة بمفردة تعضل ولكنها تستخدمه ليس فقط في قضية الزواج بل في كل القضايا التي يكون فيه الرجل والمرأة طرفي حوار وأخذ وعطاء.

هنا يستحب بنا أن نتساءل هل التعضلات على مستوى الفقه محصورة فقط في قضية الزواج؟ أم أن مقصد الآية الكريمة هو توسيع مدارك الوعي الأسري لكي يحقق كافة مناحي مصلحة الأسرة.

هل يمكن إذا توسيع فقه التعضل ليعني القدرة على إنتاج مواقف توافقية بين أعضاء الأسرة حول أفضل كافة السبل لتحقيق "المصلحة" دون تشتيت الأسرة؟

مثلا ماذا لو أرادت فتاة أن تدرس الطب وهو متاح لها ولكن ولي أمرها يصر أن تدرس تخصص التعليم ضد رغبتها فهل يسمى ولي الأمر هنا عاضل وتسقط ولايته في هذا المحور؟

وعلى مستوى عش الزوجية لو تم تقسيم شؤون الحياة بين الزوج وزوجته إلى محاور ومواضيع يجب فيها أن ينجح الزوج بالإمتناع عن التعضل مع زوجته لكيلا يتحول إلى فاسق في نظر الشرع. وفي حالة ما قام الزوج بممارسة ولايته على زوجته بنهج التعضل أي بفرض رأي لا يخدم مصلحة الأسرة بشدة فهل في هذه الحالة يسقط شرط السمع والطاعة للزوج في هذا الملف؟

لا يجب أن نستثني في زمن متعولم بثقافات كونية من إستثناء تعضل المرأة في صيغة البنت أو الزوجة على الرجل. فبمثل ما أن الإنخراط في ثقافة توافقية مطلوبة من الرجل فهي أيضا مطلوبة من المرأة. نحن بلا شك بأمس الحاجة إلى إعادة فتح ملف “فقه العضالة أو التعضل” ومن ثم توسيع نطاقه ليكون بشكله المطوّر محور تشكيل وعي شرعي يعطي الرجل والمرأة الحافز الديني على تجنب تعضل الواحد على الآخر وتحفيزهما التجنب سلوك فرض رأي ما على الشريك الآخر. بل يجب على الرجل والمرأة وخصوصا الرجل في الثقافة العربية وعلى بنته وزوجته خوض حواراتهم بمعايير التكافؤ بين شركاء المصلحة لتحديد ما هو مصلحة الأسرة وكيف يمكن تحقيقه بشكل لا تعضلاتي أي لا يتعضل الرجل فيه على المرأة ولا تتعضل المرأة فيه على الرجل وذلك ببث ثقافة إنتاج تعريفات أسرية لما هو مصلحتها بشكل ونهج توافقي لا قسري.