هل يمكن أنسنة السلفية الأوروبية بتصويفها؟

كم يصعب على المرء ألا يشاهد ذلك الضباب الفكري وهو يتلبد على منطق الدين عند أعداد ليست بقليلة من المهاجرين.

أوروبا وسمعة الإسلام والمسلمين تعانيان من حين لآخر من تصرفات السلفية المتطرفة. سعيا خلف حلول ممكنة لإطفاء هذا التوحش البشري في حق الإنسان، تسعى هذه المقالة الى تعريف مكمن الخلل السلفي المتأزم كما أنها ترشد إلى سبل أنسنة هذا التطرف وذلك بإثبات وجود جذور تصوفية لدى أعلام السلفية عسى أن يمكن إعادة اكتشافها وتقديمها كسلفية متصوفة مسالمة لمن يصرون على هذا النهج في أوروبا. كما تشخص المقالة البربهاري كمصدر التأزم السلفي وكيف أن ابن تيمية وابن القيم عجزا عن تجاوزه بالرغم من أن ابن الجوزي الحنبلي السلفي الذي سبقهما بأكثر من قرن من الزمان نجح بتجاوز "السلفية البربهارية" وذلك بصيانة السلفية من خلال تصويفها قديما. فهل يمكن أنسَنَة السّلفية الأوروبية بتَصْويفها مرة أخرى؟

***

كم يصعب على المرء ألا يشاهد ذلك الضباب الفكري وهو يتلبد على منطق الدين عند أعداد ليست بقليلة من المهاجرين. فعندما ننخرط في حديث ذو سحنة دينية أسمع في إجاباتهم مقتطفات أفكار مبعثرة لا تعكس أراء مؤمن بها بقدر ما تعكس ما بلغهم من علم ولكن ما يقلقني هو أنها أراء تحمل صبغة الخطاب السلفي. أجمل ما أجد عند هذا الشباب الطيب حب التعرف على إسلام غير ذلك الذي زودهم به بعض المتكلمين في بلادهم الأم. إنهم يبحثون عن إسلام آخر يسمح لهم بأن يكونوا مسلمين ويسمح لهم بالاندماج والتعايش في المجتمع مع إخوان التراب من الألمان وبقية المهاجرين.

كم يحزنني الخيال الديني السلفي الخاطئ الذي يوهم معتنقه أن مهمته في الأرض أن يطهر الأرض من البدعة ومن المبتدع نفسه بمضايقته بعنف إن تطلب الأمر.

قبل ما أستفيض في هذه المقالة لا بد من العلم أني لا أرى على مر التاريخ الماضي واليوم الراهن سلفية واحدة بل كان وما زالت هناك سلفيات وفي كل سلفية تيارات. من أخطر السلفيات تلك التي تقوم مبانيها على منظومة كلامية سلفية إفنائية وهي ذات منطلق فكري سهل أن يفهمه أي إنسان لم يحصل على أدنى مستوى تعليمي. فتأويلاتها تقسم البشرية إلى كافر ومسلم، ومن ثم تصنف المسلم إلى مبتدع ضال أو مهتدي متبع لطريق السنة والجماعة. ولا يوجد أحد سواهم على ذلك الطريق القويم.

مشكلة السلفية أن السلفية الإفنائية خطفت الأضواء حتى يكاد أغلب السلفية التوهم من أنه لا توجد سلفية سوى تلك الإفنائية المتأزمة والأسوأ عندما يتوهم الشاب أنه لا خلاص للإنسان وعتق من النيران سوى باعتناقها. فهل هناك من طريق إلى أنسنة هذا الفصيل السلفي الإفنائي؟

من السلفين الذين تتجاهلهم الأذرع الإعلامية الدينية هو أبو الفرج بن الجوزي القرشي البغدادي وهو فقيه حنبلي محدث ومؤرخ ومتكلم (510 – 597هـ). ما يهمنا أن أبو الفرج هو أول سلفي كتب عن شخصية متصوفة وعن التصوف في كتاب بعنوان "درر الجواهر من كلام الشيخ عبدالقادر الجيلاني".

موضوع الكتاب هو الشيخ عبدالقادر الجيلاني أو الكيلاني (470 – 561هـ) وهو متصوف مشهور جدا وتنسب الطريقة الصوفية المشهورة بالقادرية إليه. بهذا العمل الكتابي نسج السلفي الحنبلي أبو الفرج بن الجوزي مبكرا مجدّلة عقدت بين ضفيرة سلفية مع أخرى متصوفة بحيث لا يمكن فلّها. وكان هذا الكتاب محاولة جادة من ابن الجوزي في مواجهة تشكل السلفية الإفنائية. ففي تقديري توجس ابن الجوزي من حجم العبث الفكري الإفنائي الذي أطلقة أبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري (233 – 329هـ) بسلوكياته وكتاباته المتأزمة باسم الحنبلية والسلفية. على الرغم من أن ابن الجوزي نجى من إخفاق البربهاري في استيعاب المشيئة القرآنية المطلقة الواردة في سورة الكهف والتي تجعل مشيئة الكفر أو الإيمان بيد الإنسان والتي تؤكد أنه لا توجد عقوبة دنيوية على اختيار الكفر بل كل العقوبات أخروية يجريها الرب عز وجل بحق الظالمين بدون مساعدة من أي إنسان لا في الدنيا ولا في الآخرة: "وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا * وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ * بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا" (الكهف 29). إلا أن غيره أخفق.

فكل من الشيخ ابن تيمية (661 – 728هـ) وزميله الشيخ ابن قيم الجوزية (691 – 751هـ) لم يستطيعا حسم موقفهما بالانضمام إلى سلفية ابن الجوزي الناعمة والمتصوفة في وجه سلفية البربهاري الإفنائية المتأزمة. بل يبدو أنهما قررا مسك العصا من الوسط فتجد في كتاباتهما إرث أبو الفرج ابن الجوزي السلفية المتصوفة وتجد في كتاباتهما إرث البربهاري المتأزم الذي يريد إصلاح الضمائر بالعصى من خلال مجموعة فتاوي متشنجة لا ترتضي للإنسان من ممارسة مشيئته التي كفلها القرآن. نعم تجد عند ابن تيمية-ابن القيم من إرث أبو الفرج ابن الجوزي فتارة تجد أن ابن تيمية يسهب في الكتابة عن متصوفة الحنابلة الثلاثة، الشيخ عبدالقادر الجيلاني، وعن الجنيد، وعن إبراهيم بن أدهم. كما تجد ابن القيم يختصر كتاب تصوفي باسم "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" وفي ذات الأثناء تقرأ بين نصوصهما تعابير الإقصاء وزندقة المخالف وبل تكفيره اقتداء بالبربهاري.

بعد هذه المقدمة انكشفت عنا قشاعة أربكت الكثير في عدم فهم مصدر شطحات ابن تيمية-ابن القيم المسهبة في التأزم وتارة المسهبة في النعومة. لذلك أعتقد أنه إذا ما تمكن لنا من إعادة اكتشاف تصوفيات السلفي/المتصوف أبو الفرج بن الجوزي وحجم تأثره على كل من ابن تيمية-ابن القيم ومن ثم إنقاذ إرث ابن تيمية-ابن القيم من تلويثات البربهاري الإفنائية المتأزمة لتمكن لنا من طرح سلفية تصوفية ناعمة. بعد ذلك يستطيع من يصر على الأنموذج السلفي من الأخذ من هذه السلفية/الصوفية المنقحة دونما أن تكون أفكاره إقصائية للتنوع الديني واللاديني في المجتمعات.

ولكن كان هناك مشروع سلفي آخر، بل حتما من نوع آخر أطلقه محي الدين بن عربي الأندلسي (558 - 638هـ). فابن عربي المتصوف المشهور كان أيضا في زمانه (وليس في زماننا) مشهور بشيء آخر وهو فقهه. كان ابن عربي سلفيا جدا على مستوى الفقه. فهو يؤمن باللامذهبية وهي ركيزة فقهية سلفية. فكان ابن عربي يضيق على الإنسان فرص التقليد ويحث كل فرد يمتلك سعة كافية من صنع مذهبه الصغير الخاص به. فابن عربي من الناحية الفقهية سلفي جدا بكونه لا يؤمن بالتقليد المذهبي. ومن الأسر العربية التي ما زالت تحافظ على إرث ابن عربي التصوفي-السلفي هي الأسرة الصديقية الغمارية المغربية. فهي من ناحية تشجع اللامذهبية ومن ناحية أخرى تشجع تصوف ابن العربي.

إذا نحن أمام أنموذجين. فهناك أنموذج متاح لمن يريد أن يكون حنبليا متصوفا كأبي الفرج بن الجوزي وهناك أنموذج آخر لمن يرغب بانموذج اللامذهبية المتصوفة كتلك التي عمل بها بن عربي الأندلسي.

ختاما المتجدلة التصوفية – السلفية إرث ذو تاريخ قديم. إرث متصالح في شخص أبو الفرج بن الجوزي وفي شخص ابن عربي الأندلسي صاحب الفتوحات المكية. ويمكن لمحبي السلم والسلام المجتمعي إثراء الوعي لدى الشباب بالتخلص من أفكار البربهاري الدخيلة وبتنقية كتب ابن تيمية وابن القيم منه لكي نعطي لمجتمعاتنا الفرصة من تعايش متعدد متصالح.