منذ ما سرد جلجامش: أسطورة البحرين

واحنا بالجود ويا الكرم والعز معروفين

عندما أكتب عن البحرين أكتب عن سيرتي ومعها قصص لا تخلوا من أحداث تاريخية جميلة. سأكتب عن أيام الطفولة والحس العروبي الذي كان ينعش أجواء البحرين في السبعينيات ويطيب هواءها. فصور عربات القوة العسكرية البريطانية التي كانت تجوب شوارع العاصمة لم تزل في ذاكرتي خصوصا الريش الحمراء على قبعات جند الإنكليز وشواربهم المائلة إلى الشقار ألوان لم تألفها عيناي بين عربنا من أهل البحرين والسعودية. لا أنسى محاولة العسكر البريطاني في أواخر شهور تواجدهم في مملكة البحرين بكسب ود قلوب الأطفال كآخر ذكريات لتواجدهم قبل رحيلهم النهائي. فمن حين لآخر تتوقف عرباتهم ليخرج منها جنودهم ليتوددوا ويتحدثوا مع الأطفال وإعطائنا الحلوى. وكانوا يتحدثون معنا بلطف على الرغم من أننا حينها لم نعرف من الإنكليزية غير هللو ونو ويس.

رحل الإنكليز في 15 أغسطس من عام 1971. واجتمع العرب مع الأسرة الطيبة الحكيمة من آل خليفة واتفقوا على دمج فرحتين في يوم واحد ليكون يوم 16 ديسمبر عيد أعياد أهل البحرين. ففي هذا اليوم نحتفل بعيدين، عيد رحيل عسكر الإنكليز (وليس الإنكليز فبيننا وبينهم علاقات جيدة وقديمة وما زلنا نحافظ عليها)، وعيد اعتلاء حاكم البحرين المحبوب عيسى بن سلمان ال خليفة، رحمه الله تعالى، كرسي الحكم (1961-1999).

لم أكن أعرف أن البحرين استقلت فوعيي السياسي لم يفطن لمثل هذه الأمور لحداثة سني ولكنه فطن إلى تلك النشوة التي كانت تحركني أيضا وإن كنت طفلا. فذاكرتي رصدت تغيرا من نوع آخر في الشارع البحريني. تغير طرأ مباشرة بعد رحيل الإنكليز. فذاكرتي خزّنت ما رأته من أحاسيس العزة والافتخار بين العرب التي إنعكست على سلوكياتهم العامة. فذاكرتي تخبرني بعودة انتشار لبس الثوب العربي وغطاء الرأس (الغترة) والعقال الأسود بين البحرينيين. ولكن أهم من كل ذلك هو ما جسده عرب البحرين من مشاعر العزة والنخوة بالاستقلال وعودة السيادة كاملة الى شيوخهم من خلال أشعارهم. فقرحت إكنّة أبناء الضاد بقصائد أمسكت على وجدان البحرين الجمعي الفياضة في كلمات موزونة أرّخت لتلك المشاعر المباركة.

من الشعراء الذين أرخت قصائدهم ودونت لهذه المشاعر العروبية هو الشيخ عيسى بن راشد الخليفة.

وأعني تحديدا قصيدة " من خلقت الدنيا "
من خلقت الدنيا واحنا هل البحرين
بالجود ويا الكرم والعز معروفين
احنا اللي في أرضنا كل الحلا والزين
واحنا اللي في بحرنا دانات منثورين
يمضي العمر عندنا ما تذكره السنين
بالجود ويا الكرم والعز معروفين
احنا القمر لي ظهر وقف ينادينا
حتى القمر عندنا يحب غناوينا
والعود ما قط سكت يحيى ليالينا
بالجود ويا الكرم والعز معروفين

لا توجد قصيدة استطاعت أن تجسد كلماتها مشاعر نشوة الاستقلال والفرحة الجارفة بين عوائل البحرين بالاستقلال. كانت السبعينيات أيام أمال وطموح ورغبة عارمة بالبناء بالاعتماد على سواعد الأبناء من خلال عقول الأبناء.

في تلك الفترة كان مغني بحريني رائع يبرز بشكل تدريجي الى السطح المحلي والعربي وأقصد تحديدا المغني البحريني الرائع والمتميز أحمد الجميري. هذا المغني يعبر بكلماته عن بلوغه خبر تَقَصَّدْ الشيخ عيسى بقصيدته " من خلقت الدنيا " في أحد اللقاءات الصحفية قائلا: انا احساسي عاطفي جداً لذلك حتى الاغاني الوطنية التي غنيتها عن البحرين هي اغاني عاطفية مثل من خلقت الدنيا واحنا هل البحرين، تلاقي فيها الحماس، تلاقي فيها الهدوء فيها العاطفة والحنان.

والأغنية المهمة الأخرى قصيدة "يا الزينه ذكريني". وهي أيضا قصيدة للشاعر عيسى بن راشد ومن غناء أحمد الجميري. أجادت هذه القصيدة في الحديث نيابة عن مشاعر ذلك البحريني المتواجد في كل الأماكن يعمل بكد طلابا الرزق الحلال. ولكن كدح البحريني في هذه الحياة لا يكون قط سببا ينسيه أجمل شيء في وجوده: البحرين، الوطن. نجح الشاعر في جعل "الزينة" الإسم الرمزي للمعشوقة الكبرى البحرين. "يا الزينه ذكريني" قصيدة رفعت همة الذين شاهدتهم من الرجال الكادحين في كل مكان من أن يرددوا عند بحماس مع أحمد الجميري عند سماعهم له وهو يغنيها.

شعرت من أحاسيس العرب حينها بحجم تلك المشاعر من الحب والوفاء للوطن. فالوطن حب وعشق وهمة وعمل وبناء.

يا الزينه ذكريني

يا الزينة ذكريني لي غيبتني بحور
وبشوق ناديني يمكن الدنيا اتدور
وآرد ويا الصيف ولا الشتا لي رد
ولا مع الأشواق وقت الربيع والورد

وأنا بعيد بعيد ما عندي غير الآه
حملت نجم السما شوقي لكم وياه
وصيت طير الفلا ولا حمل لوصاه
حملت موج البحرسلامي ما وداه
***
بارد ويا الصيف ولا الشتا لي رد
ولا مع الأشواق وقت الربيع والورد

حلفت يا الزينة ما فارق البحرين
في قلبي مزروعة ومحفوظة وسط العين
اشتاق اشم العود واوله على الطيبين
والحنا لي خطوه وساود على الكفين
***
بارد ويا الصيف ولا الشتا لي رد
والا مع الأشواق وقت الربيع والورد

والأغنية الثالثة التي رصدت مشاعر الاستقلال والفرحة هي قصيدة " خضر نشلج" للشاعر المتميز عبدالرحمن رفيع رحمه الله تعالى (ت 2015).

خضر نشلج على عودج تزينينه ولا يزينج
وأحب هالورد الدايم ربيع أحمر على خدودج
وأحب السحر الفتان ينبع نور من عيونج
وأحب الحنة لين ينبان ويبرق فوق ظفر ريلج
وتقولين يا بعد جبدي وأقول لج يا نظر عيني
أعرفج زين أعرفج
من المحرق وصيف العين بحريني.

والتي غناها المغني القدير والرائع أحمد الجميري

إن هؤلاء الرجال وهذه القصائد وهذه الأصوات وهذه الأغاني تاريخ يجب العودة إليه. تاريخ رصد مشاعر الاستقلال بالنسبة للكثير من جيلي. ذكريات السبعينيات ليست فقط تاريخ صبانا بل تاريخ لتكويننا، تاريخ هويتنا، وحسنا الانتمائي إلى هذه المملكة الجميلة. التحام أبناء العرب مع أبناء آل خليفة في مشوار واحد، في قارب واحد، في بلد واحد، لا لشيء سوى الحب والمحبة والأمل والعمل لبناء شيء جميل اسمه "البحرين". فمنذ ما سرد جلجامش، ملك أورك، أسطورة البحرين واحنا بالجود ويا الكرم والعز معروفين.