الاغتراب في مدونة الولد العاق

كتابات سعدون جبار البيضاني تثير الكثير من التساؤلات بشأن الصور التي يرسمها وهو يكتب قصصه سواء القصيرة منها أم القصيرة جدا.
الولوج إلى العالم القصصي الذي يمزج الواقع بالفانتازيا، والألم بالسخرية، والقص بسرد يبتعد عن الحكي باتجاه الفكرة
 الزمن والشخصيات والأحداث تتداخل حتى يحتاج المتلقي إلى بعض الجهد ليفك ذلك التداخل ويصل إلى البنى التحتية للنص
البحث عن المضمور الذي يقبع تحت سطح النص القصصي

تثير كتابات سعدون جبار البيضاني الكثير من التساؤلات بشأن الصور التي يرسمها وهو يكتب قصصه سواء القصيرة منها أم القصيرة جدا، ولاسيما وقد اجترح لنفسه أسلوبا مميزا يجعل المرء يتردد امام الكتابة عنه، أو الولوج إلى العالم القصصي الذي يمزج الواقع بالفانتازيا، والألم بالسخرية، والقص بسرد يبتعد عن الحكي باتجاه الفكرة، حيث يتداخل الزمن والشخصيات والأحداث حتى يحتاج المتلقي إلى بعض الجهد ليفك ذلك التداخل ويصل إلى البنى التحتية للنص بحثا عن المضمور الذي يقبع تحت سطح النص القصصي.
لا أدري أن كان بالأمكان التعامل مع نصوص مجموعة قصصية كمتوالية سردية يؤدي بعضها إلى بعض، ويحل المتأخر منها ما تقدم من قصص، أو الرجوع إلى المتقدم لفك أسرار المتأخر. غير أنني حاولت أن اقرأ مجموعة سعدون البيضاني الأخيرة "مدونة الولد العاق" بهذا الشكل لعلي أفلح بالتوصل إلى فك مغاليقها.
البداية من عتبات المجموعة الأولى انطلاقا من الغلاف الذي صممه شاعر وناقد هو حامد عبدالحسين، وهذا يدفعنا إلى القول إن التصميم يرتبط بقراءة للنصوص برؤية أدبية فنية فقد جاء اسم الكاتب أعلى صفحة الغلاف بحروف باللون الأسود تم إحاطتها بإطار أبيض، وهذا دلالة على إبراز اسم الكاتب كونه من الكتاب المعروفين للقراء.
اسم المجموعة جاء بنمط حروف كبيرة وكتبت كلمة "مدونة" باللون الأسود فيما جاءت حروف "الولد العاق" باللون الأبيض، وهذا يشير إلى أننا أمام شكلين متناقضين الأول هو المدونة، أي النصوص التي تضمنتها المجموعة، وربما كان الأسود يوحي بسوداوية تكتنف الكتابة أو الحكايات التي تتضمنها المجموعة، على العكس من الولد الذي يصف نفسه بالعاق والذي جاءت باللون الأبيض للدلالة على نقاء الروح التي يحملها ذلك الولد، ولكن كيف لمن يحمل روحا نقية أن يكون عاقاً؟

سعدون البيضاني قدم نصوصا مكتنزنة بالمعاني تترادف فيها المفردات لتمسك القاريء ولا تفلته، حتى عند الوصول إلى الصفحات الأخيرة

وهنا نجدنا أمام تساؤل إذا كانت هذه النصوص التي بين أيدينا هي المدونة فمن هو الولد العاق، الكاتب، أم السارد، أم هو مجموع الشخصيات التي تتضمنها قصص المجموعة، رغم أن العنوان هو نفسه عنوانا لإحدى القصص. بمعنى يمكن أن نتكهن أن القصة التي تحمل عنوانها المجموعة هي المفتاح لمغاليق ما يستشكل علينا عند قراءة النصوص أجمعها. 
وتم تعريف جنس الكتاب بعبارتين إحداهما أسفل الأخرى "قصص قصيرة – قصص قصيرة جدا"، إذن نحن أمام نمطين من أنماط الكتابة القصصية يمتاز كل منها بأسلوبه سواء من حيث طبيعة السرد أو الحجم، وهذا يجعلنا نميز عند القراءة بين جنس كل نمط من أنماط النصوص التي تحتويها المجموعة.
وهنا يمكننا أن نلاحظ أيضا أن الصفحة الثالثة من المجموعة التي جاءت كغلاف داخلي حملت أيضا اسم المجموعة إضافة إلى تجنيسها (قصص قصيرة - قصص قصيرة جدا) كما في الغلاف الأول الرئيس، ولكن الصفحة الخامسة والتي جاءت كغلاف داخلي ثالث حملت اسم المجموعة إضافة إلى عبارة "فنطازيا/ كوميديا سوداء" وبذلك فأنها تضيف تجنيسا آخر لنصوص المجموعة يبين أسلوب السرد للنصوص بتصنيفها "فنطازيا وكوميديا سوداء"، في محاولة لتوجيه القاريء لقراءة النصوص وفق هذا الاتجاه. 
كما تضمن الغلاف صورة خطية لفتى ذي وجه مسطح تتنافر عيناه على جانبي وجهه ورأسه المسطح يحمل آلة كأنها تلك اللعبة التي تدق برأس مدبب إذ تبرز تحتها نقطة سوداء للتدليل على مكان سقوط الرأس المدبّب فوق الرأس. ويحمل هذا الشخص الذي يرتدي قميصا أسودَ بيده مجرفة صغيرة كأنها تلك التي تستخدم في الحدائق المنزلية. 
الغلاف الأخير حمل في ربعه الأيمن صورة الغلاف نفسها بشكل جانبي وعلى طول الغلاف، فيما جاء أعلى الجزء الثاني اسم الكاتب باللغة الإنكليزية تحته صورة شخصية صغيرة للكاتب في منتصف الصفحة، وأسفل الصورة جاء نص كالآتي: 
"فجأة، وجدت نفسي متدليا في الهواء أمام منزلي، رأسي مائلا إلى الجهة اليسرى ولساني امتد أكثر من سبعة أصابع فيما بلغ طول رقبتي ثلاثين بوصة، لا توجد مشنقة حول رقبتي ولا منصة تحتي، الناس مجتمعين حول الدار على شكل طوابير منتظمة بما يشبه اصطفاف تلاميذ المدارس يوم الخميس، ينظرون إلي باندهاش ويلوحون لي بأيديهم ويصيحون بصوت واحد وبأعلى أصواتهم .. مبري الذمة .. مبري الذمة".
في صورة لوداع الميت الذي يسرد الموقف بنفسه، وهو ما يمكن أن نكتشفه في أغلب قصص المجموعة، وربما كان اختيار هذا النص موفقا ليكون مدخلا لفهم نصوص المجموعة التي جاءت محملة بثنائية الموت - الحياة. موت لا يعني الغياب الكامل لوعي الإنسان الميت، وحياة لا تعني سوى الهامش والغياب وسط المعاناة وانعدام المعنى.
بمعنى آخر فأن نصوص المجموعة تتناول الموت ليس بكونه الحالة الفيزيقية التي لا بد أن يمر بها الإنسان في نهاية رحلته بالحياة، ولكن ذلك الشعور الذي ينتاب الإنسان وهو على قيد الحياة حيث لا يجد نفسه إلا كائنا لا حياة حقيقية تدبّ في أوصاله إذ أنه لا يشعر بوجود حقيقي مؤثر، بل كأنه ميت يعيش حياته بين الناس، إنه الشعور بالعبث، أو بالأحرى الاغتراب الذي يجعل المرء منفصلا عما حوله، عن مجتمعه بالكامل، إذ يجد رؤاه بدأت تجنح بعيدا عن الرؤى الجمعية للمجتمع، وهو ما تناولته قصة "نفايات" حيث يرى السارد أن الأفكار التي انتزعها من دماغه ورمتها زوجته في برميل القمامة ليست إلا أفكاره، لكنها بالنسبة لزوجته وجيرانه ليست إلا أفكارا متعفنه تؤذيهم!  

short story
الميت ليس إلا إنسان حي 

إن الاغتراب الذي يشعر به السارد هنا هو مزيج من عدم الشعور بالحياة وملذاتها وشهواتها، وعدم التوافق بين ما يسود المجتمع من أفكار وعادات وتقاليد، حيث يصبح كلّ شيء لا معنى له، وتبدأ ملامح الشعور بالوحدة والعزلة عن المجتمع الذي لا يجده متوافقا معه إلا بعد لحظة الموت حيث يكون الجميع سواسية.
إن هذا الشعور هو ليس وليد اللحظة، بل تنامى منذ لحظة الولادة التي يرى السارد أنها كانت نتيجة فعل شبقي بدافع الشهوة أدى الى أن يزرع بذرة الحياة في رحم أمه دون أن ترغب في ذلك حسبما تروي له، وحتى دون رغبة أبيه، كما تبين قصة "واقعة الحياة" التي تمثل "تدوين واقعة وجوده على قيد الحياة" وهو ما يكرره بشكل آخر في "مدونة الولد العاق".
وما يمكن أن يلفت النظر في نصوص المجموعة أن القصص التي تتحدث عن الموت أو على لسان رجل ميت تسرد بصيغة الحضور، الأنا، ويكون السارد هو الشخص نفسه، ولكن القصص التي تتحدث عن الأحياء تأتي بصيغة الغائب هو/هم، وهذا ما يدفعنا لتأكيد الشعور بالاغتراب، وأن الحياة والموت لدى السارد ليس إلا فعلا لوصف طبيعة العيش فالأحياء هم أموات ولكن لا يشعرون، فيما يدب الشعور بالموت نتيجة البحث عن الوجود الفعلي والذي لا يمكن تحقيقه في الواقع فيذهب باتجاه الخيال للبحث عنه في طياة المجتمع الذي لا يعي حقيقة وجوده، أنهم موتى ولكن لا يشعرون.
إذن ثنائية الموت – الحياة في نصوص مدونة الولد العاق تخرج عن دلالة التضاد لتتكون كحالتين متجاورتين تتماهى مع بعضها البعض، فالميت ليس إلا إنسان حي يحاول الشعور بذاته ولكنه لا يصل إلى تحقيق ذلك، والحي ليس إلا كائنا يعيش حياته ولكن لا يعي وجوده أو غير آبه لتحقيق ذاته مكتفيا بمحاولة مواصلة الحياة على ما هي عليه، فمحاولة التمرد ربما تكون نتيجتها الموت الفعلي بمعناه الفيزيائي، أي الغياب التام عن الوجود.
لقد قدم سعدون البيضاني نصوصا مكتنزنة بالمعاني تترادف فيها المفردات لتمسك القاريء ولا تفلته، حتى عند الوصول إلى الصفحات الأخيرة التي تطلعنا على سيرة الكاتب الذاتية ومحتويات المجموعة بعناوين متسلسلة حسب صفحات ورودها في المجموعة.
صدرت مجموعة "مدونة الولد العاق" للكاتب سعدون جبار البيضاني، عن اتحاد الادباء والكتاب في ميسان – 2020.