الانعطافة الكورية الشمالية نحو روسيا

الروس والكوريون يستخدمان بعضهما البعض لإرسال إشارات إلى الولايات المتحدة.

ليست سابقة أن يرتفع السجال عالي السقف بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة، كمثل ارتفاعه خلال الأيام الماضية على قاعدة إيجاد بيئة تفاوضية جديدة بين واشنطن وبيونغ يانغ، بعد فشل القمتين السابقتين، وبخاصة الأخيرة في هانوي في فبراير/شباط الماضي، بعدما كان متوقعا الوصول إلى منصة حل قابلة للحياة بين الطرفين.

والطارئ الجديد في ملف التفاوض، رفض كوريا الشمالية لمبدأ إشراك وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو في عمليات التفاوض على خلفية الاهانة التي وجهها للرئيس الكوري كيم جونغ اون متهما إياه بالطاغية. وأيا تكن الخلفية، فيبدو أن بيونغ يانغ لم تعد مقتنعة بجدوى التفاوض بعد سلسلة الوعود غير المنفذة من قبل واشنطن منذ العقد الماضي، وما استجد من وعود كانت جدية لتخلي بيونغ يانغ عن برنامجها النووي وغيرها من المطالب من بينها الصواريخ الباليستية.

والمفاجأة التي أطلت بها كوريا الشمالية الإعلان عن تجربة صواريخ باليستية تكتية جديدة ذات نظام فريد في التوجيه، وهو الإعلان الأول بعد القمة الأخيرة، وكأنها رسالة واضحة موجهة إلى واشنطن بالتنصل بما اتفق عليه سابقا من تجميد وإيقاف التجارب، الأمر الذي سمعته واشنطن بتصعيد جديد يوجب الرد عليه، وبصرف النظر عن مستويات الرد وفاعليته وتداعياته على مستقبل المفاوضات، يبدو أن الإعلان الكوري كان مدروسا بدقة، بحيث رفع التصعيد دون فرطه أو إجبار واشنطن على اتخاذ إجراءات لا عودة عنها؛ إذ أن الإعلان الكوري الشمالي اختار وصنَّف التجربة من نوع الصواريخ التكتية، وهو نوع لا تعتبره الولايات المتحدة مهددا لأمنها القومي، وبالتالي تمكنت بيونغ بيانغ مبدئيا من إمكانية احتواء إي رد أميركي محتمل في النطاق والمستوى الذي يمكن السيطرة عليه وإعادة منصة التفاوض في اطر وسقوف جديدة، ما يستلزم استراتيجيات دولية جديدة، وهذا ما تحاول بيونغ يانغ القيام به عبر التقرب من موسكو.

إن إعلان كوريا الشمالية عن زيارة زعيمها إلى روسيا خلال هذا الشهر، هو محاولة للقراءة والاستفادة من موسكو كوسيلة ضغط على الولايات المتحدة واستثمارها في المفاوضات المقبلة المحتملة، وهي وسيلة تحتاجها بيونغ يانغ بشكل كبير، في وقت تجد فيه موسكو هذا الملف استثمارا جيدا في علاقاتها التنافسية مع واشنطن، لاسيما وان ملفات كثيرة قد فتحت حاليا وتحتاج إلى بؤر جديدة لإدارة أزمات ذات طبيعة مزدوجة للاستثمار، كملف العقوبات الاقتصادية الأميركية على الدول الثلاث كوبا ونيكاراغوا وفنزويلا وايران، وما يعني من ساحة مفتوحة في أميركا اللاتينية والتي بات لموسكو وبكين توجهات ومقاربات جديدة فيها.

وعلى الرغم من بقاء بيونغ يانغ على تمايز واضح في علاقاتها الإيديولوجية إبان الحقبة السوفياتية وكذلك الماوية في الصين، إلا أنها نسجت خيوطا اقتصادية بفعل الضرورة في حقبة الانفتاح الصيني وكذلك مع روسيا لاحقا، وهما البلدان اللذان تتنفس منهما كوريا حاليا بفعل الحصار والعقوبات، حيث التبادل التجاري واضح وبخاصة المتعلقة بمناجم الفحم وغيرها، وهما البلدان الذي شاركا سابقا في الخماسية الدولية لمفاوضات البرنامج النووي منذ العام 2007.

اليوم تجد كوريا الشمالية ضالتها بالتوجه نحو موسكو للاستفادة من دعم مفترض يمكن لكلا الطرفين الاستفادة منه، إلا أن سير الأمور لاحقا من الصعب التنبؤ به للعديد من الأسباب والاعتبارات الخاصة بهما وبالطرف الثالث واشنطن، فكوريا تقحم ملفا حيويا بالنسبة إليها ولا يمكن تقديم الكثير فيه مباشرة لواشنطن أو لموسكو إذ تبادلا الأدوار؛ فيما واشنطن تهدف المضي في موضوع البرنامج النووي إلى نهايات محددة رسمتها مسبقا وهو التخلي عنه مقابل مساعدات اقتصادية لم تعد كوريا مقتنعة بمصداقية الوعود،فيما السبب الأكثر حرجا، صعوبة التعامل مع الرئيس الكوري وعدم القدرة على معرفة ما يدور في خلده. وبصرف النظر عن صورة الوضع القادم ربما تعتبر الانعطافة الكورية الورقة الأخيرة التي يمكن أن تلعبها في الوقت الضائع من عمر العديد من الأزمات الإقليمية الكبرى التي لها علاقة عضوية ببعضها البعض.