البريكي في "بيت آيل للسقوط"

رغم الوجع وجراحات الذات، الشاعر الإماراتي يمنح الآفاق سنابل وأشواقا يعلن هبوبه مثل فراشات نادرة.
عوالم حالة شعرية تعلن سفرها المفتوح في الأرجاء على الذات والآخرين
من أقاصي الجراح جئت نحيلا ** فوق رأسي حملت هما ثقيلا

الشعر هذا اللون الباذخ من الوجدان والشجن حيث لا مجال لغير التذكر والحنين والقول العالي بالأبجدية تنحت هبوبها مثل رياح ناعمة تلهو بالدواخل وشواسعها تتقصد رؤية الأشياء بتمامها ونقصانها بجميلها وقبيحها بتفاصيل عناصرها في ضروب من إقامة الذات في الكينونة. واللغة هنا حمالة أحوال معها يمضي الكائن في حله وترحاله مأخوذا بالحلم كعنوان آسر في أزمنة متغيرة. من قدم لا يضاهى هو إلماعات الشعر الأولى، بداياته الإنسانية.
في هذا السفر الكوني تظل اللغة بيت الإنسان وهو يتقصد ذاته في هذا العالم. بيت الشاعر وكينونته على فكرة هايدغار الفيلسوف الألماني الشهير.
إنها اللعبة الكونية الباذخة الواعية بذاتها وبالآخرين. إنه الشعر يضيء الأمكنة بفداحة المعاني وفصاحة الروح فلا مجال هنا لغير النشيد يجترح ألوانه من ممكنات الذات. هذه الذات التي تحاول الآخرين تحاورهم تمنحهم أجنحة للعلو وتتيح لهم شيئا من المرح الخالص في الأرجاء. إنه مرح اللغة الشعرية تعانق هواجسها تعلن عريها تبث أصواتها في الجهات.
من هنا نلج عوالم حالة شعرية تعلن سفرها المفتوح في الأرجاء على الذات والآخرين قول بالعذوبة والصفاء النادرين في سردية تقترح أشجان الذات المجروحة في لون من النواح الخافت :
من أقاصي الجراح جئت نحيلا ** فوق رأسي حملت هما ثقيلا
يجلس الليل في زوايا جنوني ** وعلى الخوف أستريح قليلا
زارني الصمت خلته مثل ذئب ** يملأ القلب رهبة وعويلا
...
بين جرحين أحتسي كأس صبري ** وكأني وجدت صبري قتيلا
"انثروا القمح" فوق رأسي فاني ** جئت كالطير لا أملّ الهديلا
آيلٌ للسقوط بيت الأماني ** أنقذوا سقفه .. يعود جميلا

الشاعر في شجنه المحفوف بالصبر والخوف يرتجي الجمال في هذا الكم الإنساني من الجراح والهموم التي زينت أحاسيسه لتغدو ذاته الحاضنة للأمل

هذا هو الشاعر هنا في شجنه المحفوف بالصبر والخوف يرتجي الجمال في هذا الكم الإنساني من الجراح والهموم التي زينت أحاسيسه لتغدو ذاته الحاضنة للأمل فالأشياء من حوله يجترها التداعي المريب وكل شيء آيل للسقوط، حتى البيت الكينونة.
"بيت آيل للسقوط" هو عنوان لافت من عناوين التجربة الشعرية ذات الإصدارات المختلفة بين الشعر الفصيح والشعر الشعبي والدراسات لشاعرنا الذي أخذنا إلى قصائده التي تنكتب على جدران قلبه المفعم بالمحبة والأحلام وممكنات الجمال الذي يرتجيه للكائنات. شاعر يأتي من البحر يطلق موسيقى مرفوقا بالخليل، الحرف، الكلمات، الشعر.
الشاعر محمد عبدالله البريكي في هذا الديوان الشعري وفي غيره يسعى عاملا على صفاء لغته الشعرية صادقا في العبارة، يتخير رشيقها في قصائد الديوان التي منها "صوت المنافي" و"شاطئ الحب" و"مرت على شفتي" و"الباب يطلبني للدخول" و"أنثى البدايات" و"مشاهد فوق زوايا الحجر" و"أغنية العائدين" و"بيت آيل للسقوط" و"ضوء آخر" و"الشارقة" و"خلف جنونها ذئب" و"بعيدا عن الماء" و"العابرون على نبضي" و"رواية عشق".
كون شعري يسافر فيه وبه البريكي لا يلوي معه على غير القول بالوجد تجاه الذات وقلقها المبثوث هنا وهناك يسكب شعره على سبيل الخلاص والضياء في عتمة الليل: 
"...أمن عينين
أصنع منهما لليل قنديلا
وأبحث عن فضاء 
أطلق الهم الذي في داخلي..
طيرا .. يحاول أن يعود بطانة 
من شعري المسكوب في صدري...."
شاعر يمنح الآفاق سنابل وأشواقا يعلن هبوبه مثل فراشات نادرة، تلك الفراشات التي نسعد بألوانها الزاهية وهي تنتشي في الحقول رغم الوجع وجراح الذات الإنسانية والهموم المزروعة في الأمكنة تظل القصيدة عند شاعرها محمد عبدالله البريكي مجالا خصبا للأمل والجمال والمرح الخالص. هكذا هي لغته المتدفقة تعلن براءتها الأولى، براءة الطفولة المسكوبة في قصائد الشعراء من أزمنة أولى إلى الآن والهنا. هي فسحة الشعر ينشد أشواقه زمن التيه، والسقوط المريب:
مساؤك
يشعل زيت الشعور
ويصنع في موقد الوجد خبزا 
ويزرع في دوح شعري
سنابل للقمح والزعفران
مساؤك يا سدرة الوقت
شوق ترامى على شفة الأقحوان
مساء الفراشات بين الحقول...."
هكذا تمضي الكلمات مع الشاعر محمد عبدالله البريكي بكثير من عنفوان العبارة الشعرية لا شيء يمنعها من قول التجلي بإناقة الشعر وصفاء معانيه وصوره في ضروب من رومانسية مأخوذة بالشجن. إنها القصائد في موسيقاها مثل نايات مأخوذة بالصدى، الناي من قصب،  لكن الصوت رخام.
"بيت آيل للسقوط" مساحة أخرى من مساحات الشعر في مجالات قصيدتنا العربية تتنوع معانيها وأشكالها وتيماتها وفق جماليات القول وتلوينات أصدائه نحتا للقيمة وتأصيلا للذات في كون محفوف بالمربك والكامن في الضجيج حيث الذات تعالج تداعيات السقوط. كل ما حولنا آيل للسقوط، لكنه الشاعر يسعى جاهدا شعريا لترميم ما تداعى من الحال، هو الشعر عزاء وسلوى، ينحت ظلاله الآمنة مثل نهر قديم ينحت مجراه في الصخر.