'التحريض' اغتيال رابين في فيلم يدين اليمين الإسرائيلي

فيلم المخرج يارون زيلبرمان يروي أحداث اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي بالمزج بين المشاهد التسجيلية للوقائع الحقيقية مع المشاهد الدرامية.
تشريح درامي مؤثر لعقلية شاب تملأ عقله أفكار دينية
فيلم يتضمن مزجا شديد القوة والتأثير بين شريطي الصوت والصورة
'التحريض' سيمثل إسرائيل في الأوسكار

يعتبر اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين عام 1995 من أحداث الاغتيال السياسي الاستثنائية في تاريخ الدولة العبرية. 
عن هذا الحادث الذي أثار الكثير من الانقسامات داخل البنية الاجتماعية الهشة هناك، ظهر من قبل فيلمان من النوع التسجيلي. الأول هو فيلم "فيما وراء الخوف" الذي بدأ المخرج هيرز فرانك الإسرائيلي المخضرم (يهودي مهاجر من لاتفيا) في تصويره وإعداد مادته لكنه لم يكمله بسبب وفاته عام 2013 عن 87 عاما، وأكملته من بعده مساعدته ماريا كرافشنكو وهي مهاجرة يهودية روسية. أما الفيلم الثاني فهو فيلم "رابين: اليوم الأخير" للمخرج الإسرائيلي الشهير بأفلامه المثيرة للجدل، آموس غيتاي.
لم يكن "فيما وراء الخوف" فيلما عن حادث الاغتيال أو عن القاتل نفسه، بل كان تركيزه الأساسي على المرأة الإسرائيلية التي تنتمي لأسرة من اليهود الروس، والتي تخلت عن زوجها الذي أنجبت منه أربعة أبناء، وكافحت طويلا حتى تزوجت من إيغال عمير- قاتل رابين المحكوم بالسجن مدى الحياة، بل وأنجبت منه ابنا! 
أما فيلم "رابين: اليوم الأخير" لآموس غيتاي، فهو عبارة عن إعادة تشريح للحدث نفسه باستخدام الوثائق المصورة ومزجها بمشاهد "إعادة التمثيل" أو المحاكاة، والبحث في الخطاب الثقافي والديني والمناخ السياسي الذي ساد الشارع الإسرائيلي وسبق وقوع الجريمة التي يعتقد أنها غيرت بشكل كامل صورة إسرائيل وجعلتها تفقد كل مبرر للحديث عن كونها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي الكلمات (الساخرة) التي ينتهي بها الفيلم.
على نهج فيلم غيتاي يأتي الفيلم الجديد "التحريض" The Incitement الذي أخرجه يارون زيلبرمان (وشاهدناه مؤخرا في مهرجان لندن السينمائي)، ولكن في سياق روائي درامي، باستخدام الممثلين، لرواية الأحداث التي سبقت حادث الاغتيال ثم الاغتيال نفسه وما أعقبه. ولكن المخرج يدعم بناء الفيلم بالمزج بين المشاهد التسجيلية (من الأرشيف) للأحداث الحقيقية مع المشاهد الدرامية. ومن الوهلة الأولى يبدو صانع الفيلم عازما على تشريح شخصية القاتل الشاب إيغال عمير، طالب القانون في جامعة بار إيلان، في ضوء تصاعد المد الديني المتطرف ودعاوى اليمين الصهيوني (واليهودية السياسية) بعد توقيع اتفاق أوسلو، مصورا كيف شارك اليمين السياسي والديني، بثقافته وأفكاره واستناده على التعاليم اليهودية في التوراه والتلمود وتفسيرات الحاخامات، في إدخال فكرة الاغتيال وترسيخها ودفعها داخل رأس إيغال.

يعتمد الفيلم في البداية على التحليل النفسي لشخصية القاتل الشاب، فيصوره أولا كشاب "طبيعي" يرتبط بعلاقة حب مع فتاة، زميلة له في الجامعة يريد أن يتزوجها. لكن هذه الفتاة تنتمي لأسرة من اليهود الغربيين (الأشكيناز) من المستوطنين، وهي لا تستطيع التكيف مع إيغال الذي ينتمي لأسرة من اليهود الشرقيين الفقراء ذوي الأصول اليمنية. أولا بسبب التناقض الاجتماعي وعدم قبول أسرتها لهذا الشاب، وثانيا رفض الفتاة الانسياق وراء نزوع إيغال للتطرف عندما يخبرها أنه بصدد تشكل منظمة يهودية راديكالية مسلحة تسيطر على الأراضي الفلسطينية المحتلة التي سيتخلى عنها الجيش الإسرائيلي بموجب معاهدة أوسلو التي وقعها رابين مع ياسر عرفات في واشنطن.
صدمة إيغال بسبب رفض الفتاة له تدفعه الى التطرف أكثر فأكثر مع نزعة انتقامية واضحة من أولئك اليهود الملاعين الغربيين الليبراليين. ولكنه يتعرف على فتاة أخرى تبدو في البداية أقرب إلى العلمانية، لكن اعجابها به يجعلها تغض الطرف عن أفكاره المتطرفة التي تجدها نوعا من الجموح الفكري فقط، لكن هذه الفتاة تقوم بتقديمه إلى عمها الحاخام الذي يدخل في روعه أن التعاليم التلمودية تنص على وجوب قتل من يعرض الشعب اليهودي للخطر، أي باختصار، يبرر له فكرته التي تتلخص في قتل رابين.
نتابع بعد ذلك علاقات عامير مع مجموعة من الشباب بينهم شقيقه الأكبر، وصديقه المجند في الجيش الذي يقوم بتزويده بالأسلحة، ويذهب الجميع يتدربون على استخدامها، لكن عامير سيقوم في النهاية باغتيال رابين بمفرده بعد أن يكون مر على عدد من الحاخامات اليهود الذين يجد لديهم فتاوى دينية تبرر له ما يعتزم القيام به.

يبدو صانع الفيلم عازما على تشريح شخصية القاتل الشاب إيغال عمير

الوحيد الذي يتصدى له ويقاومه ويحاول ردعه هو والده، فهو على النقيض من أمه التي تشعر بنوع من الحقد تجاه اليهود الأشكيناز الذين يتمتعون بما لا تتمتع به رغم إيمانها الشديد بالقيم اليهودية وتمكسها بالصهيونية. إلا أن المواجهة بين الأب والإبن لا تسفر سوى عن خروج إيغال عن الأسرة والسير في طريقه منفردا لتنفيذ ما يرى أنه أمر من الله بل والواجب الذي تفرضه التعاليم اليهودية على كل مخلص ليهوديته، أي ضرورة معاقبة الخارج عن الجماعة اليهودية، الذي ارتكب فعل الخيانة، بالموت. وهي النظرة التي تروج في أوساط اليمين المتشدد عن رابين. 
تظهر في الفيلم صور وملصقات كثيرة يقوم إيغال عامير وزملاؤه بتعليقها فوق جدران الجامعة، تصور رابين في زي ضابط نازي، وحينا آخر نرى صورا كثيرة يوزعها شباب اليمين المتطرف لرابين وهو يرتدي الكوفية والغطرة الفلسطينية، وفي مظاهراتهم يحمل شباب اليمين نعشا يكتبون عليه "نهاية الصهيونية"، ويستعيد الفيلم مشهد توقيع رابين على اتفاق أوسلو مع عرفات في البيت الأبيض، ثم خروج مظاهرات اليمين الحاشدة بقيادة نتانياهو تعارض وتشجب رابين وتتهمه بالخيانة. وفي مشهد تسجيلي من تلك التي يزخر بها الفيلم، يقف نتانياهو أعلى شرفة تطل على ساحة عامة في القدس، يلقي خطابا ناريا وسط أنصاره بينما تتعالى هتافاتهم "الموت لرابين" دون أن يردعهم نتانياهو. ويضم الفيلم مقاطع من تصريحات رابين نفسه في الرد على تحريض خصمه السياسي وأنصاره. لكن يبقى الجانب الدرامي هو الأكثر أهمية، من خلال البناء الذي يكشف مشهدا وراء آخر، اندفاع عامير أكثر فأكثر نحو تنفيذ الفكرة التي أصبحت تسيطر تماما على عقله.
في البداية كانت "أوسلو"، أعقبها حادث الهجوم الذي شنه باروخ غولدشتاين على المصلين الفلسطينيين في الحرم الابراهيمي في الخليل وقتل خلاله 29 فلسطينيا. وسيصبح غولدشتاين هذا "البطل اليهودي" لدى عامير الذي سيتخرج من الخدمة العسكرية (في وحدة عسكرية يهودية متدينة) ويصبح مهووسا بالفكر الديني اليهودي المتطرف، يدافع بضراوة عما قام به غولدشتاين، ويدين اعتقاله وسجنه. تدعمه أمه التي تدخل في روعه أنه موفد العناية الإلهية لتخليص الشعب اليهودي وتحدثه عن الدلالات التوراتية التي يحملها اسمه "إيغال" وكيف أنه سيكون له دور كبير في المستقبل، بينما يلفت والده نظره إلى أن العنف ليس هو الحل وانه قد آن الأوان للعيش المشترك وأن هجوم غولدتاين لم ينتج سوى العمليات الانتحارية الفلسطينية. 
يصور الفيلم اغتيال رابين مازجا بين الصور الحقيقية التسجيلية ويمزج بين الجموع التي تظهر فيها والممثل الشاب الذي يقوم بدور إيغال عمير، كما يمزج بين الممثلين وبين الأحداث التي أحاطت بالتفجيرات الانتحارية الفلسطينية، ثم اندلاع مظاهرات حاشدة لليمين المتطرف، كما يصور أيضا المظاهرات المؤيدة لرئيس الوزراء رابين.

إننا أمام تشريح درامي شديد القوة والتأثير لعقلية شاب تملأ عقله أفكار دينية موجودة في النصوص اليهودية، وكأننا نشاهد الوجه الآخر للتطرف لدى الإسلام السياسي الذي يستند بدوره على نصوص تبرر القتل والعنف والتكفير. ولم يكن بعيدا عن الأذهان ونحن نشاهد هذا الفيلم، كيف تم اغتيال الرئيس أنور السادات بموجب تفسيرات وفتاوى ونصوص دينية. لكن الفيلم من جهة أخرى يجسد بقوة درامية مدعومة بالصور، ذلك الانقسام الحاد الذي يعصف بالمجتمع الإسرائيلي من الداخل، ويحذر من خطورة انتشار الفكر الديني المتطرف على الدولة الإسرائيلية نفسها التي لم يعد يصلح ان تعتبر نفسها دولة ديمقراطية، موجها إدانة قوية لليمين الإسرائيلي، ولسياسات نتانياهو، ويذكر في النهاية كيف لم تصدر عن نتانياهو كلمة واحدة في إدانة قتل رابين بعد أن وصل إلى السلطة.  
هناك مزج شديد القوة والتأثير، بين شريطي الصوت والصورة، واستخدام جيد للتعليق من خارج الصورة، من قراءات ونصوص يظهر بعضها مكتوبا على الشاشة، من الكتب الدينية اليهودية، تبرر القتل. ويتميز الفيلم بالأداء الجيد المقنع من جانب الممثل الشاب يهودا نهاري هاليفي في الدور الرئيسي، فهو ينجح كثيرا في تقمص دور الشاب الذي يصبح مهووسا بفكرة تنفيذ الإرادة الإلهية وأن يصبح بطلا من أبطال الشعب اليهودي. إنه يفصح لأصدقائه وزملائه وأسرته عما يعتزم القيام به قبل فترة من الحادث نفسه، بل ويجند أيضا شقيقه الأكبر معه في خطته الأولى لتكوين خلية عسكرية، هدفها ترويع الفلسطينيين ودفعهم للتخلي عن أراضيهم التي يفترض أن يرحل عنها الجيش الإسرائيلي بعد أوسلو، وينتهي إلى السجن غير نادم أو معتذر عن جريمته. إنها جريمة قتل معلن.
رفضت شركات انتاج عديدة داخل إسرائيل تمويل هذا الفيلم إلى أن عثر مخرجه على التمويل ولكنه لم يحصل على دعم رسمي من وزارة الثقافة حسب سياسة الدعم الحكومة الرسمية السائدة، بل إن وزيرة الثقافة الإسرائيلية اليمينية ميري ريغيف، اعترضت على عرض الفيلم في مهرجان سينمائي يقام في إسرائيل، كونه ينتقد اليمين الإسرائيلي بقسوة ويحمله بدعاياته مسؤولية اغتيال رابين. لكن الفيلم مضى رغم ذلك ليحصل على جائزة أفضل فيلم إسرائيلي في المسابقة السنوية. وأصبح بالتالي المرشح الرسمي لتمثيل بلاده في مسابقة الأوسكار القادمة.