التصعيد يلوح في الأفق وصيف ساخن في المنطقة

الجزء المتبقي من حكومة الطوارئ الإسرائيلية المتشددة لا يريد إلا الاستمرار بالحرب في غزة وتوسيع رقعتها نحو لبنان.

بعد مرور عام ونصف على وصول حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة لسدة الحكم، وبعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الاعتداء الإسرائيلي المدمر على غزة وحرب الابادة التي يشنها الاحتلال ضد سكانه، تبدو الأمور تتجه نحو التصعيد، الأمر الذي يشير إلى أن المنطقة ستشهد صيفا ساخنا. هناك العديد من المؤشرات التي ترجح تحرك المنطقة باتجاه ذلك التصعيد، ناهيك عن الفشل الذي منيت به جميع المبادرات أو المحاولات للخروج من أزمات المنطقة، على رأسها حرب الإبادة التي تشن ضد المدنيين في غزة. 

وتبدو المعادلة الشاذة والمعقدة للوقائع والأحداث في المنطقة ضمن ذات المعطيات، باستمرار بقاء حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة صاحبة قرار استمرار الحرب في غزة، ومواصلة الدعم الأميركي الأعمى لكيان الاحتلال في حرب الإبادة على غزة، حتى وإن اختلفت معها، واستمرار ارتباط تأجج جبهة لبنان واليمن والعراق بجبهة غزة، وتواصل سياسة العصا المتبعة من قبل سلطات الاحتلال والحكومة اليمينية في الضفة الغربية. وليس هناك مؤشرات حتى الآن تحمل معطيات لإمكانية حدوث تبدل أو تغير في إطار تلك المعطيات. فمصلحة نتنياهو في البقاء بالحكم تفسر سلوكه وتمسكه بالحرب، حتى وإن كان ذلك على حساب المحتجزين الإسرائيليين في غزة، أو حتى على حساب إرتفاع الأثمان البشرية العسكرية في الحرب، وعدم وجود معارضة في الشارع الإسرائيلي أو على الخارطة الحزبية الإسرائيلية يمكنها أن تبدل الواقع السياسي الحالي. وذلك ينطبق أيضا على الموقف الأميركي تجاه إسرائيل وحربها، في تركيبة سياسية أميركية مصقولة في خدمة كيان الاحتلال. ولعل جريمة مخيم النصيرات الأخيرة تبقى مثالاً مخزياً للشراكة الأميركية الاسرائيلية في حرب الإبادة على غزة، والتي استشهد وأصيب خلالها ما يقارب من ألف فلسطيني، من أجل محاولة لإخراج أربعة محتجزين إسرائيليين من غزة، ويقر الاحتلال بما قدمته الولايات المتحدة استخبارياً له في إطار ارتكاب مجزرة مخيم النصيرات، ويفيد شهود العيان باستعانة جيش الاحتلال بالميناء الذي بني أميركياً في غزة لتحقيق ذلك الهجوم، وهناك شكوك بمشاركة قوات أميركية أيضا في ذلك الهجوم. 

لم تنجح حتى اللحظة جميع مساعي وقف إطلاق النار، أو حتى تحقيق هدنة في غزة، رغم مرور أكثر من ثمانية أشهر على حرب الإبادة التي تشن على القطاع الساحلي الصغير الضيق. ورغم المساعي الأميركية المتعددة لتحقيق تلك الهدنة أو وقف لإطلاق النار، خصوصاً وأن جميع المبادرات تدور في الفلك الأميركي، لم يتحقق أي اختراق يذكر في ذلك الملف. وتستمر استراتيجية تلك المبادرات، والتي توحي بتواصل المساعي والمحاولات لتحقيق اختراق، بينما تبقى العملية برمتها أسيرة للتناقضات الجوهرية بين رؤية طرفي القضية، وتكيتيكات الرد والرد المقابل، بينما الأطفال والمدنيون في غزة يقتلون، أو يموتون من الجوع والمرض. وقد تكون آخر المحاولات تلك التي عرضها بايدن نهاية الشهر الماضي، والذي صدر قرار لمجلس الأمن في أعقابها قبل يومين. ويقوم بلينكن حالياً بزيارة المنطقة للمرة الثامنة خلال هذه الحرب، أي بمعدل مرة شهرياً، لمتابعة تطورات تلك المبادرة، دون وجود توقع بتحقيق أي إختراق جدي في اطارها. وتبدو المشكلة التي تتجاهلها واشنطن، أنه من الصعب أن تكون واشنطن شريكا في الحرب وتدعم أحد الأطراف فيها، وتريد أن تلعب دور الوسيط، ويثق بها الطرف الآخر. يعتبر بايدن في هذه الصفقة الأخيرة أن الكرة في ملعب حركة حماس لقبولها، رغم تصريحات نتنياهو وممثلة كيان الاحتلال في مجلس الأمن، التي تصر على مواصلة الحرب حتى تحقيق النصر الكامل. وتبدو أي صفقة تبادل تعرض لا تصل لوقف الحرب والانسحاب الكامل للاحتلال من غزة بشكل كامل غير مقبولة أو منطقية أو ممكنة، لأنه من غير الواقعي تسليم المحتجزين في غزة، مقابل المعتقلين والأسرى الفلسطينيين في سجون ومعتقلات الاحتلال، والذي يمكن للاحتلال إعادة إعتقالهم مرة أخرى، كما جرى سابقاً في صفقة شاليت، ثم العودة للحرب والتدمير والقتل بعد استعادة المحتجزين الإسرائيليين، حتى استسلام حركة حماس أو القضاء على مقاتليها، مع مواصلة القتل والتدمير للمدنيين ومرافق القطاع.

لا تبدو المؤشرات الحالية مبشرة، بل على العكس قد تشير لتصعيد محتمل في المنطقة. قد تكون أول مؤشرات التصعيد تحركات ومبادرات الإدارة الأميركية، والتي بدأت تتحرك لإنجاز مصالحها، بعيداً عن إسرائيل، وفرص إنهاء الحرب الدائرة في غزة. وتدرس إدارة بايدن الترويج لصفقة منفصلة مع حركة حماس لإطلاق سراح خمس رهائن أميركيين مزدوجي الجنسية محتجزين في غزة، ولا تعارض حكومة نتنياهو ذلك. كما ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال يوم الخميس الماضي أن إدارة بايدن مهتمة بالتحرك نحو التوصل لإتفاق مع المملكة العربية السعودية، بعيداً عن الجزء الخاص بالتطبيع السعودي الإسرائيلي. وأكدت الإدارة الأميركية في الأيام الأخيرة على أنه تم إحراز تقدم كبير في الاتصالات بين الرياض وواشنطن، بعد استبعاد العقبة في إحراز ذلك التقدم والتي تتعلق بمعارضة الحكومة الإسرائيلية للاتزام بتسوية القضية الفلسطينية، وفق شرط المملكة لإنجاز صفقة التطبيع. ويحتاج انجاز الصفقة الأميركية السعودية في اطار المعاهدة الدفاعية لموافقة مجلس الشيوخ بأغلبية الثلثين، الأمر الذي يتطلب ضمان موافقة الجمهوريين عليها، وهو ما يفترض التفاهم مع إسرائيل، انطلاقا من علاقة الصفقة بأمنها، والتعهد الأميركي بضمان تفوقها في المنطقة. أما في إطار الجزء الخاص بالصفقة التي تتعلق بالقرار التنفيذي للإدارة، والتي لا تحتاج لموافقة مجلس الشيوخ، كالجزء الخاص بتوريد الأسلحة الأميركية المتقدمة للسعوديين وحصول الرياض على الموافقة الأميركية لإطلاق برنامجها النووي المدني، فتبدو إمكانية تنفيذها أسهل. يأتي الاهتمام الأميركي بإنجاز تلك الصفقة في ظل حاجة الولايات المتحدة لتعزيز الدفاع الأميركي في الشرق الأوسط باستخدام الأراضي والمجال الجوي السعودي، في ظل تصاعد الوجود الصيني الروسي الاستراتيجي في المنطقة.

وقد يكون لاستقالة بيني غانتس وجادي آيزنكوت من الحكومة الإسرائيلية، وانسحاب حزب الوحدة الوطنية من الائتلاف الحاكم، محفزاً أكبر للإدارة الأميركية للمضي قدماً في مشاريعها في غزة والسعودية بعيداً عن إسرائيل، ناهيك عن اعتبار ذلك التطور بحد ذاته مؤشراً مهماً للتصعيد في المنطقة. اعتبرت واشنطن غانتس وآيزنكوت الداعمين الرئيسيين لصفقة تبادل محتملة بين أعضاء حكومة نتنياهو، وغيابهما عن المسرح السياسي يشير إلى صعوبة احتمال حدوث ذلك الآن. وساهم غانتس وآيزنكوت، بالإضافة للمعارضة الأميركية، في تعطيل شن هجوم على لبنان حتى الآن. وتتصاعد المخاوف بعد رحيل حزب الوحدة الوطنية عن الحكومة، بإمكانية حدوث تصعيد على الجبهة الشمالية مع لبنان، في ظل زيادة تأثير أعضاء الحكومة اليمينية في قرار الحرب.

وقد اعتبر غانتس لدى استقالته إن الائتلاف غير قادر على تحقيق “نصر حقيقي” وألقى باللوم بشكل مباشر على نتنياهو واتهمه بوضع السياسات الشخصية على الصالح الوطني، ودعا لإجراء انتخابات مبكرة. وتمثل هذه الخطوة نهاية "حكومة الطوارئ" التي جاءت في أعقاب السابع من أكتوبر، والتي ركزت السلطة في "حكومة الحرب". وكان لغانتس وآيزنكوت تأثير كبير لعدم تمدد الحرب للشمال، بعد أن ربطا دخولهما في التحالف بتركيز على القضاء على حركة حماس في غزة، وعدم توسيع الصراع ليشمل حزب الله في لبنان. ولعب الجنرالان أيضًا دورًا رئيسيًا في تحقيق وقف إطلاق النار القصير في تشرين الثاني الماضي والذي شهد إطلاق سراح 105 محتجزة إسرائيلية من غزة. مع غياب غانتس، يتعزز تأثير وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريش في قرارات نتنياهو. ولا يخفي بن غفير وسموتريتش رغبتهما في إفشال أي محاولة للتوصل إلى اتفاق تبادل ووقف إطلاق النار، ووصفوا أي صفقة محتملة بـ "استسلام"، ويدفعون باتجاه احتلال عسكري إسرائيلي واسع النطاق وبناء المستوطنات اليهودية في القطاع، ويعارضون التطبيع مع السعودية ضمن أي اعتبارات فلسطينية. وعمل سموتريش من خلال منصبه لإضعاف السلطة الفلسطينية مالياً وزعزعة استقرار الضفة الغربية، ودعا إلى اتخاذ إجراءات “حاسمة” ضد السلطة الفلسطينية بعد ساعات فقط من استقالة غانتس. من المرجح أن تتفاقم التوترات في الأراضي المحتلة، في ظل التوسع الاستيطاني وعنف المستوطنين وإغارات الاحتلال اليومية على قرى ومدى الضفة واغتيال النشطاء فيها، ناهيك عن استمرار حرب الإبادة في غزة.

وفي الأسابيع الأخيرة، وفي ظل تصاعد حدة الاحتكاكات بين حزب الله وجيش الاحتلال، كثف حزب الله ضرباته، مستخدماً طائرات بدون طيار ذات اختراق أعمق لمهاجمة المناطق الحضرية والتسبب في سقوط ضحايا من المدنيين وإلحاق أضرار بيئية واسعة النطاق. وخلق هذا إحساسًا واضحًا بأن الصراع قد يتحول إلى حرب. فطالما كان الصراع محصوراً في المناطق القريبة من الحدود، مع تجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين إلى حد كبير. تسبب الصراع خلال الأشهر الماضية باجلاء الالاف من المقيمين الإسرائيليين في المنطقة الحدودية، والذي أدى لأضرار اقتصادية كبيرة، وإنشاء مناطق محظورة على المدنيين. ويشكل التصعيد الأخير تحييد لعنصر أساسي في العقيدة العسكرية الإسرائيلية التقليدية، والذي يقوم على تحويل القتال إلى أراضي الخصم. وجاء حادث الاغتيال الأخير الذي نفذه الاحتلال ضد شخصية قيادة عالية المستوى للحزب بتوقع رده، وليس من المستغرب أن تولد تلك التطورات المغامرة بعملية عسكرية واسعة النطاق، خصوصاً في ظل التغيرات السياسية الأخيرة في أعقاب استقالة غانتس. 

بعد انسحاب حزب الوحدة الوطنية من الائتلاف الحاكم، يمكن أن تظل حكومة نتنياهو الحالية، من الناحية النظرية، والمدعومة بأغلبية 64 مقعدا في الكنيست، على حالها حتى انتخابات الكنيست المقبلة المقررة في العام 2026. وتشكلت حكومة نتنياهو في أواخر العام 2022 من أربعة أحزاب، بالإضافة إلى الليكود، يمينية متطرفة ومتدينة، واجهت معارضة كبيرة منذ وصولها لسدة الحكم، وتصاعدت بعد الحرب. وقد تأتي نهاية هذه الحكومة من داخلها، اذ بدأت عهدها بإبراز انقسام مجتمعي خطير، في ظل إطلاقها لما يسمى بالإصلاحات القضائية، والتي فتحت الباب واسعاً لاحتجاجات واسعة في الشارع الإسرائيلي، وقد تعود للصدارة بعد التمرير بالقراءة الأولى قبل يومين مشروع قانون إعفاء اليهود المتشددين من التجنيد في الجيش، بما يضمن تهربهم الجماعي من التجنيد، في ظل استمرار الخسائر البشرية في الحرب، والذي يدور حوله الكثير من الجدل، فقد رفض وزير الحرب الليكودي الموافقة على تمريره بالقراءة الأولى يوم الثلاثاء الماضي. ورغم إتفاق غالبية الشارع الإسرائيلي مع الحكومة على أهدافها في غزة، إلا أن هناك معارضة واضحة حول كيفية تعاملها مع ملف المحتجزين في غزة، في ظل انتقادات عامة تتعلق في عدم إحراز تقدم في الحرب، وغياب صفقة الرهائن، وعدم تحديد موعد واضح لعودة سكان غزة النازحين من الشمال والجنوب إلى منازلهم.

وتبقى الحاجة للقرار الفلسطيني الموحد، والاتفاق الوطني الجامع على آليات مشتركة للخروج من المأزق المعقد الحالي أولوية فلسطينية ليس بالإمكان تجاهلها، في ظل حالة الاستنزاف المفتوحة التي يدفعها الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية اليوم.