التلفزيونات العربية من حكومية سلطوية إلى تجارية رديئة

معظم الشاشات العربية تعاني من هيمنة رأس المال وضعف أداء الصحفيين واجتياح وسائل التواصل الاجتماعي للمضامين الإعلامية.
قوى المال والتكنولوجيا تسيطر على الشاشات العربية
تونس

أخفقت التلفزيونات العربية في المرور بسلاسة من عصر التلفزيون الحكومي السلطوي إلى تلفزيون خاص ترفيهي خاصة مع تراجع قيمة الكفاءات الإعلامية وانهيار منظومة اجتماعية كانت سائدة قبل ظهور الإنترنت وتنامي دور مواقع التواصل الاجتماعي كبديل عن المضامين التلفزيونية حينا وكمزوّد لها أحيانا أخرى. فبات المشهد التلفزيوني في المنطقة العربية رديئا لا يعكس بالضرورة صورة المجتمع وتطلعات المشاهد العربي.

منذ ظهور أول تلفزيون عربي وهو التلفزيون العراقي عام 1954 كانت السلطة السياسية هي التي تسيطر على مضامينه، فظهر في شكل سلطوي دعائي يعبر بشكل أحادي عن إرادة الطبقة السياسية الحاكمة.

وتزامن تدفق الشاشات العربية في فترة الستينيات من القرن الماضي مع خروج الدول العربية من سيطرة الإمبراطورية العثمانية ونهاية الحقبة الاستعمارية الغربية في المنطقة العربية. فاضطلعت التلفزيونات العربية بدور تقوية الروح الوطنية لدى المواطنين العرب وتكريس الجانب التنموي لبناء وطن مستقل حديثا.

لكن شهد التلفزيون في فترة ما تحولات بسبب استثمار القطاع الخاص في المشهد التلفزيوني. وعن تلك الفترة يقول الباحث في الإعلام والاتصال الصادق الحمامي لـ"ميدل إيست أونلاين" إن "التحول الذي شهده التلفزيون في تلك الفترة شمل أيضا مستوى آخر لا يقل أهمية، إذ تعاظم البعد الاجتماعي للتلفزيون بحضور الناس العاديين فيه وفقد نهائيا طابعه المقدس باعتباره مخصصًا للنخب السياسية وأصبح مفتوحًا لظهور الإنسان العادي في الشاشة". وهو أمر ساهم في تكريس الرداءة في التلفزيونات العربية.

تلفزيون القمامة يعمل على استقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين لتحويلهم إلى سلعة

وفي الحقيقة تحيل برامج الرداءة إلى ما يسمّى "تلفزيون القمامة" الذي أخذ في الانتشار في الدول الغربية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي. ويقوم على الإثارة والترفيه باستعمال كل الطرق والوسائل المتاحة.

ويحدد الحمامي غاية تلفزيون القمامة" بأنه "يسعى إلى استقطاب أكبر عدد ممكن من المشاهدين لتحويلهم بعد ذلك إلى سلعة لصالح أصحاب الإعلانات التجارية الذين يبحثون عن مستهلكين لبضائعهم".

وتجسّدت برامج تلفزيون القمامة في برامج تلفزيون الواقع واستعراض الحياة الشخصية والبرامج الحوارية المعروفة بـ"التوك شو".

وهي نفس الموجة التي عصفت بالمشهد التلفزيونات العربية في فترة لاحقة مع تعاظم موجة "السلعنة" التي باتت ميزة كل المجتمعات الاستهلاكية.

ويجب ألا ننسى ضعف منظومة تكوين وتدريب الصحفيين الذين افتقدوا للكثير من شروط المهنية ولم يقووا على مواجهة سلطة رأس المال الساعية للتحكم في المضامين الإعلامية وتوجيهها، فاقتحم المشهد فاعلون جدد خطفوا الأضواء لا سيما مع تنامي دور وسائل التواصل الاجتماعي. فتم استقطاب "نجوم" الميديا الاجتماعية من يوتيوب وإنستغرام ليتصدروا المشهد التلفزيوني.

ففي تونس مثلا أطلقت في الأشهر الأخيرة حملة رفعت شعار "لا تجعل من الحمقى مشاهير" للتصدي لهذه الظاهرة التي استفحلت بالشاشات التونسية. وهو شعار أطلقه منذ سنوات ناشطون مدنيون في الولايات المتحدة ثم في عدد من الدول الأوروبية للتصدي لنفس الظاهرة تقريبا.

ويتساءل الحمامي هل يعبر المشهد التلفزيوني عن التنوع الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي؟ وهل يحقق الحاجات لتلفزيون متعدد الأبعاد والوظائف أي الأخبار والنقاش السياسي والبرامج الثقافية والمعرفة؟ ليجيب بنفسه على التساؤل الذي طرحه بالقول "إن المشهد التلفزيوني غير متوازن بالمرة لا يخدم الجمهور بقدر ما يخدم مصالح القنوات التلفزيونية في الحصول على أكبر قدر من مداخيل الإعلانات التجارية".

نعيش نوعا من الاغتراب التلفزيوني لأن التلفزيون تجاهل حاجات الإنسان المتنوعة

ويستنكر الحمامي تحيّل تلك القنوات التي تستخدم آلية قياس نسب المشاهدة لإضفاء الشرعية على نوعية البرامج التي تعرضها وتقدمها على أنها قنوات تحظى بالشعبية. وهي في الواقع "تجتر نفس المعادلة التي تجمع بين المسلسلات التركية وبرامج التسلية والحوارات السخيفة".

ولئن كانت التلفزيونات العربية منذ نشأتها منفصلة عن المجتمع بفعل سيطرة الطبقات الحاكمة التي كرستها كوسيلة دعائية أكثر منها إعلامية، فإنها في تقدير الحمامي مازالت تحافظ على نفس مسافة التباعد بينه وبين المجتمع. ويضيف في هذا الشأن "إنه يمكننا أن نتحدث دون حرج عن نوع من الاغتراب التلفزيوني لأن التلفزيون بات يقتصر على إشباع حاجات بعينها أي التسلية والترفيه دون الحاجات الأخرى المتعددة للإنسان باعتباره كائنا متعدد الأبعاد".

ويستدرك الحمامي بالقول "إن الأمر لا يتعلق بتجريم الحاجة إلى الترفيه لأن التلفزيون ليس مدرسة، بقدر ما يتعلق بإدانة اقتصار التلفزيون على هذه الحاجات بعينها".

وختم الحمامي بالقول "إن ما نشاهده على الشاشة لا يشبهنا ولا يعبر عنا وهو ليس مرآة لما نحن عليه".

غير أن بعض المتابعين يرون أنه لا يمكن أن نعمم حالة الرداءة السائدة في التلفزيونات العربية بشكل مطلق، فالمشهد التلفزيوني العربي يحمل استثناءات جادة على غرار القنوات المتخصصة كالوثائقية والإخبارية رغم ما قد يعيبه البعض على انكشاف الأجندات الدعائية التي تمارسها بعض القنوات الإخبارية لصالح هذا الطرف أو لضرب طرف آخر.