
التناص والتمثُّل النصي وتحويل النصوص
من المقالات الماتعة التي قرأتُها منذ سنوات، مقالة بعنوان "تحويل النصوص" للأديب والشاعر السوري منذر الشعار (1932 – 2000) بمجلة "القافلة" السعودية 1992، وتساءلتُ: ما الفرق بين تحويل النصوص والتمثُّل الشعري والتناص؟ وهل هي كلها مسميات أو مصطلحات مختلفة لمعنى واحد، أم أن كل مصطلح يحمل معنى مغايرًا عن الآخر؟
في بداية الأمر لا بد من الاقتراب، أو مقاربة، كل مصطلح على حدة، للوقوف على حقيقته ومعناه.
ولعلَّ أقرب مثال على فكرة أو مصطلح تحويل النصوص كما أورده – منذر الشعار – هو هذه الأبيات لأبي فراس الحمداني في إحدى رومياته التي يخاطب بها ابن عمِّه سيف الدولة:
فَلَيتَكَ تَحلو وَالحَياةُ مَريرَةٌ ** وَلَيتَكَ تَرضى وَالأَنامُ غِضابُ
وَلَيتَ الَّذي بَيني وَبَينَكَ عامِرٌ ** وَبَيني وَبَينَ العالَمينَ خَرابُ
إِذا نِلتُ مِنكَ الوُدَّ فَالكُلُّ هَيِّنٌ ** وَكُلُّ الَّذي فَوقَ التُرابِ تُرابُ
يقول شعار: فجاء أحد الأدباء فحوَّل وجهة هذه الأبيات من أن تكون إلى العبد إلى أن تكون إلى المعبود سبحانه وتعالى، فبانت وكأنها أدب جديد ونص جليل، لم يصنع المحوّل شيئًا غير أنه وجَّه هذه الأبيات من سيف الدولة إلى ربِّ العالمين.
وبالفعل وجدتُ هذه الأبيات منسوبة إلى الحلاج في موقع "الديوان"، ولم يتحرَّ موقع "الديوان" الدقة ويتأكد أن الأبيات لأبي فراس وليست للحلاج.
أما فكرة أو مصطلح التمثُّل النصي أو الشعري، فكما يصفه الشاعر السعودي محمد الجلواح، فإنه يعني التمثُّل بأبيات شعرية أو بمقاطع أدبية معينة، تجاه شخص معين أو موقف معين من شخص لديه بعض مقدرة على الكتابة، أو ليس لديه، لشاعر أو أديب آخر.
ومن أمثلته قصة المرأة الشابة التي كانت تجري فوق جسر بغداد فتبعها شاب قال لها: رحم الله علي بن الجهم. فالتفتتْ إليه بشدة وقالتْ: رحم الله أبا العلاء المعري، فانكسرَ الشاب وأطرق ورجع حزينًا.
لقد فهمت المرأة أن الشاب يتمثل ببيت شعر علي بن الجهم:
عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ ** جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري
(والبيت منسوب فعلا لعلي بن الجهم في موقع "الديوان").
فردت عليه المرأة بقولها بـ"رحم الله أبا العلاء"، وفهم الشاب أنها تتمثل ببيت أبي العلاء:
فيا دارَها بالخيفِ إن مزارها ** قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالُ
وفي رواية أخرى للبيت:
فيا دارَها بالحَزْنِ إن مزارها ** قريبٌ ولكن دون ذلك أهوالُ

وسواء قيلت الأبيات صراحة أم لم تقل، فإن معنى التمثُّل الشعري قائم في هذه الحالة.
وليس التمثُّل مقصورا على الشعر فحسب، ولكن هناك من يتمثل بآيات من القرآن الكريم، وهناك من يتمثل بأحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. والمهم ملاءمة التمثُّل للحالة أو الموقف الذي عليه من يستعين بأقوال أو كلمات غيره حتى يكون تمثُّلا ناجحًا ويؤدي الغرض.
يبقى إذن مصطلح أو فكرة التناص، ويقصد به تداخل بعض النصوص في نص واحد، أو هو بالمفهوم البسيط تضمين عدة نصوص في نص جديد.
وفي معجم الغني الزاهر لعبدالغني أبوالعزم: "التَّنَاصُّ، أو التعالق النصي (بالإنكليزية: Intertextuality) في الأدب العربي هو مصطلح نقدي يقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص".
أما التناص عند د. عبدالملك مرتاض (1935 – 2023) في دراسته عن فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص، فيعرّفه بقوله: "فليس التناص في تصورنا إلا حدوث علاقة تفاعلية بين نص سابق ونص حاضر لإنتاج نص لاحق".
من هذه التعاريف يتضح لنا أن لكل مصطلح وجهته التي تختلف عن وجهة الآخر، فتحويل النص يختلف عن التمثُّل بالنص، يختلف عن التناص.
فإذا كان التناص يعني إنتاح نص لاحق لنصوص سابقة عليه عن طريق التفاعل، فإن التمثُّل النصي يعني الإتيان بنص معين في حالة معينة يعتقد الناطقُ به أنه أقرب شيء لتبيان الحالة التي عليها أو لشرح موقف هو فيه، أو لضرب أمثلة تؤدي الغرض. أما تحويل النص – وهو هنا غير تحويل النصوص الروائية إلى درامية على سبيل المثال - فيعني تحويل مرتبة النص نفسه من مكانة إلى مكانة قد تكون أعلى أو أدنى، وقد يكون التحويل لمجرد التذكير أو التلذُّذ.