التنبؤ بتأثير التكنولوجيا يعد لعبة حمقاء


كتابة النصوص ببرامج الذكاء الصناعي مبهرة ومحيرة معا، لأن النظام قادر على أن يكون شكسبير والسياب وأدونيس، ومحيرة لأن هذه التجارب، رغم كونها رائعة إلى ما لا نهاية، هي أيضا مضللة.
نظام طليق في إنتاج نص يبدو معقولا، لكنه عاجز عن التفكير مسبقا. إنه لا يخطط لما سيقوله وليس له هدف محدد

عندما كان الحديث بالأمس عن القرص المدمج وسعته بخزن مئات الملايين من الكلمات، كان باهرا في أقصى درجات الدهشة! اليوم مثل هذا الكلام مكانه المتحف التكنولوجي، ونحن نتحدث عن نظام الذكاء الاصطناعي وهو يفهم دلالة تريليون كلمة تم نشرها على المدونات ووسائل التواصل الاجتماعي والكتب الرقمية.

لقد تعلم نظام “GPT-3” مداخل ومخارج اللغة الطبيعية من خلال تحليل الآلاف من الكتب الرقمية، بل صار قادرا على فهم طريقة تفكير وأسلوب مشاهير الكتّاب لإنتاج نصوص يمكن أن تحسب عليهم.

ونظام “جي.بي.تي- 3″ هو برنامج للذكاء الاصطناعي العام قام بتدريب نفسه ليحاكي قدرة الإنسان على كتابة المقالات من خلال السماح له بـ”التجول” في النصوص المتاحة على شبكة الإنترنت.

بدت تجربة هذا النظام مبهرة ومحيرة معا بعد أن نجح في دعم مختبرات الذكاء الاصطناعي الرائدة في العالم، الذي طورته شركة “OpenAI”، وهي مجموعة مستقلة مدعومة بمليار دولار من شركة مايكروسوفت، بالإضافة إلى دعم مختبرات غوغل وفيسبوك.

مبهرة لأن النظام قادر على أن يكون شكسبير وفرجينيا وولف ودوريس ليسنغ ووليم فوكنر وهمنغواي ويوفال نوح هراري وبدر شاكر السياب والصادق النيهوم وأدونيس، ومحيرة لأن هذه التجارب، رغم كونها رائعة إلى ما لا نهاية، هي أيضا مضللة.

ويعبّر مارك ريدل الباحث في معهد جورجيا للتكنولوجيا عن ذلك بالقول “هذا النظام طليق للغاية في إنتاج نص يبدو معقولا، لكنه عاجز عن التفكير مسبقا. إنه لا يخطط لما سيقوله وليس له هدف محدد”.

أدهشتني تجربة أن يجد كاتب نفسه، أو نسخة طبق الأصل من طريقة تفكيره وإنتاجه الأفكار في نظام “جي.بي.تي-3” ويصدق ذلك إلى حد ما.

لقد نجح النظام بدرجة معقولة في كتابة نصوص بنفس طريقة عالم النفس الأميركي سكوت باري كوفمان الذي أصدر مجموعة مهمة من المؤلفات عن إعادة تعريف الذكاء الطبيعي وكشف أسرار العقل الإبداعي.

كانت التجربة مقبولة بالنسبة إلى كوفمان عندما عرضت عليه النصوص التي كتبها “جي.بي.تي-3” ونسبها إليه، فقال “حقا كأنه يفكر بطريقتي، يبدو الأمر مثل شيء أود قوله” لكن هذا الانبهار تراجع بمجرد إجراء محاورة طبيعية بين نظام الذكاء الاصطناعي وعالم النفس سكوت باري كوفمان.

يمكن أن نعيد التجربة مع أي شاعر أو كاتب حي لإنتاج نصوص له عبر الذكاء الاصطناعي، أو حتى مع الراحلين عبر تقمص ثيمة أسلوبهم، ومثلما سيكون مثيرا قراءة رواية جديدة لهمنغواي كتبها “جي.بي.تي-3” سيكون الأمر ملتبسا أيضا وغير حقيقي، أو بتعبير كوفمان “الذكاء الاصطناعي دقيق ومجنون”. سيكون بعدها محيرا أن تكون لدينا قصيدتان لأدونيس لا نعرف أيهما الحقيقية.

وهذا ما دفع الكاتب كيد ميتز في تقرير له بصحيفة نيويورك تايمز إلى التنبيه من أن نظام “جي.بي.تي-3” ليس خاليا من العيوب، فغالبا ما ينتج لغة متحيزة وسامة. وتلك مشكلة مستوطنة أصلا في خطاب الإنترنت الذي تغلب عليه البغضاء.

مع ذلك يمكن لهذا النظام وفق ميتز، أن يتعلم من مجموعة أكبر بكثير من النصوص عبر الإنترنت مقارنة بالأنظمة السابقة، يمكنه أيضا أن يفتح المجال أمام مجموعة واسعة من الاحتمالات الجديدة، مثل البرامج التي يمكنها تسريع تطوير تطبيقات الهواتف الذكية الحديثة، أو روبوتات التحاور التي باستطاعتها التواصل بأسلوب بشري أكثر مقارنة بالتقنيات السابقة.

وكل ذلك لا يحد من الخلاف بشأن قوة هذا النوع من التكنولوجيا في نهاية المطاف، لكنها ليست مثالية على الإطلاق، وأنها مصممة بطريقة لتسويق نوع من الخداع المقبول، وقد تجعلك تتعامل مع أشخاص مثل الذين تجدهم في فيسبوك أو تويتر، لكنهم في حقيقة الأمر غير موجودين إلا في خوارزمية الذكاء الاصطناعي!

يدافع داريو أمودي نائب رئيس قسم الأبحاث في شركة “OpenAI” عن النظام بقوله “إنه يتمتع بجودة ناشئة”، في إشارة إلى استبعاد تسويقه في الأشهر أو السنوات القريبة قبل ضمان أن يكون تحت سيطرة الشركة المصنعة وتجاوز المخاطر القانونية، بينما يرى إيليا سوتسكيفر كبير علماء الشركة أن نظام “جي.بي.تي-3” يظهر صعود الذكاء الاصطناعي في مسائل لم يكن يعتقد أحد من قبل أنها ممكنة.

في النهاية، إذا كان الاقتصاديون يفكرون بطريقة متدرجة، فإن التكنولوجيين ينطلقون بسرعة ومفاجئة. وذلك ما يحصل اليوم في الذكاء الاصطناعي الذي يترقب أن يغير كل قطاعات الأعمال.

فمسارات الاكتشافات الجديدة – وفق كاتبي المفضل جون ثورنهيل – ستتصارع مع المعضلات التي تطرحها الوفرة وليس الندرة.

لكن مثل هذا الرأي لا يقنع نيكولاس بلوم، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد، عندما يقبل أن تحدث الاكتشافات الجديدة ثورة في معدل واتجاه التقدم العلمي. لكنه يجادل بأن هذا من غير المرجح أن يغير المسار العام للاقتصاد في ضوء التباطؤ العنيد والقاسي في نمو الإنتاجية.

ويقول بلوم في تصريح لصحيفة فاينانشيال تايمز “إن الاختراعات السابقة، بما في ذلك الأقمار الصناعية والإنترنت، لم تغير الصورة. الذكاء الاصطناعي أمر كبير وسيمنحنا دفعة من النمو، لكن هل سيكون ذلك كافيا لتعويض هذا الاتجاه؟”.

ومهما يكن من أمر، فالدرس التاريخي يخبرنا أن التنبؤ بتأثير التكنولوجيا يعد لعبة حمقاء. وسيكون من التسرع تعاطي جرعة زائدة من التفاؤل.

ولكن، المفارقة التي التقطها ثورنهيل، هي أنه كلما كنت أكثر تشاؤما بشأن التأثير الاقتصادي للاكتشافات، كانت الحجة أقوى لزيادة الإنفاق على البحث.

لنتذكر هنا المليار دولار التي منحتها مايكروسوف إلى شركة أوبين آل.