الجماعة.. النص المنفي

اللامبالاة الشعبية التي صاحبت وفاة محمد مرسي تستحق التوقف عندها.

علينا أن نفكر طويلا أسباب انعدام الغضبة لدى أنصار وأتباع ومؤيدي حركة الإخوان المسلمين عقب وفاة الرئيس المصري المعزول بحكم الشعب الدكتور محمد مرسي، والتي يمكن إرجاعها إلى أن من توفاه الله لم يكن مرشد الجماعة وهو المنصب الرفيع والأبرز بل والأوحد صفة ومكانة وسلطوية في فكر وتنظيم جماعة الإخوان التي بدأها الأستاذ حسن البنا في مدينة الإسماعيلية بشمال شرق مصر. فالمرشد هو الزعيم الروحي الذي تنبغي له الطاعة والسمع في المنشط والمكره، وهو صاحب المرجعية المطلقة التي لا ترد وإن كنت لا أعلم علم اليقين كيفية تنصيب واختيار المرشد العام للجماعة هل بالأقدمية في الانتساب والمشاركة أم بالعمل الخدمي للجماعة أم بمدى علمه ومكانته الدينية وإن كانت الجماعة تمثل ظهيرا سياسيا مدنيا أكثر من كونها جماعة دينية.

لكن منصب الرئيس تحديدا رئيس الجمهورية هو أمر جديد تماما على فكر الجماعة وإن سعت منذ تدشينها للوصول إلى هذه المرحلة والتي أطلقت عليها الجماعة منذ عشرينيات القرن الماضي مرحلة التمكين، لكن الفكرة تحققت ورغم ذلك بدا المنصب جديدا ووافدا غريبا بعض الشئ في ظل وجود مرجعية أعلى وسلطة يراها كثيرون مطلقة ألا وهي سلطة المرشد، وربما توقعت وغيري سر انعدام الغضبة الإخوانية بسبب ضعف موقف الجماعة في الشارع المصري وحالات التعاطف اللامتناهية من جانب النخبة والبسطاء على السواء صوب شهداء الوطن الأبرار من رجال الجيش المصري الباسل وضباط وجنود الشرطة الذين ضحوا بحياتهم في سبيل عدم تقويض هذا الوطن العظيم.

وعقب إعلان موت الرئيس المعزول شعبيا في شهر عزله أيضا محمد مرسي اتضح المشهد الشعبي والعالمي للجماعة الذي لم يتجاوز حدود الفضائيات الباهتة والبليدة والمفبركة أيضا والتي دعت إلى اعتباره شهيدا للحرية وللوطن، واتضح أيضا مساحات الكراهية والنبذ والسخرية من جانب المعارضين لفكر الجماعة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يحتاج بحق إلى دراسة نفسية تفسر موقف المصريين إزاء الموت لاسيما وأن الموت سيظل اليقين الخالد لديهم منذ بزوغ فكرة الحضارة أيام الفراعنة الأجداد.

ولست من هواة تجديد ذكرى حماقات الجماعة التي ارتكبت بحق الشعب والجيش المصري لأن هذا مكانه البرامج الوثائقية، لكن أنا أقف طويلا أمام هذا الشباب الذي انضم يوما إلى فكر ورؤية جماعة الإخوان المسلمين وبفضل التوعية الثقافية والمجتمعية أصبح مؤهلا للانضمام إلى وطنه الأكبر مصر وليس الاقتصار على مرجعية يحكمها مرشد متناهٍ، هؤلاء الشباب هم أولى بالرعاية لاسيما الذين تأكدوا أن الجماعة أحدثت انقساما حادا في صفوف الشعب المصري وأوغلت صدره بممارسات الإقصاء والاستبعاد الاجتماعي، لذا بدت الثقافة بديلا ورهانا استثنائيا لمواجهة أية أفكار مغايرة لرؤية وطن يتسمح بالتسامح والوسطية.

والثقافة وحدها لا تستطيع أن تواجه الإرهاب المسلح والعنف الممنهج والمؤطر وفق مرجعيات تبدو ثابتة لدى أصحابها الراديكاليين، هذا ما ينبغي أن يفطن إليه عشرات المحللين السياسيين الذين ضاقت بهم وبعقولنا وأسماعنا أيضا الفضاءات الإعلامية التي استباحت أبصارنا وأذهاننا على السواء، لأن معظم السياسيين التنظيريين وكافة الصحافيين لازالوا رهن الطروحات التي تبرهن على ضرورة التخلي عن المواجهة الأمنية العسكرية ضد هؤلاء الذين يعيثون في الأرض فسادا، لذا فأنا ممن يؤكد على ضرورة البدء بالحل الأمني قبل المواجهة الثقافية مع أولئك الذي يفسدون في الأرض بغير رحمة مستخدمين أسلحة الغدر والخيانة ضد المدنيين وجنودنا البواسل رجال الشرطة المصرية والقوات المسلحة.

أما عن الثقافة التي ما زالت تمارس أدوارها البسيطة على استحياء نظرا لضعف المناخ الفكري نفسه، والتدهور التعليمي الذي يواصل سقوطه بامتياز، فإن مشكلتها المستدامة مع المواطن والمجتمع هي مشكلة تأطير المصطلحات رغم أن المصريين في عمومهم لديهم هوس مستدام بفكرة المصطلح والتصنيف والتخصيص، بدءا من الأقارب الذين يتم توصيف بعضهم بالعقارب، مرورا بالتهكمات الرياضية البليدة والخائبة بين جماهير قطبي الكرة المصرية النادي الملكي الزمالك نادي المواهب والفن الكروي والهندسة الرياضية، وبين النادي الأهلي صاحب التاريخ العريق من البطولات، انتهاء بفوضى التصنيفات التي تتعلق بالحكم على العقيدة.

والمواجهة الثقافية لا بد وأن تبدأ بعملية تفكيك الفكر المتطرف ذاته، والبحث عن المثالب المباشرة والضمنية المتضمنة بثنايا المرجعيات الراديكالية المتطرفة والتي تبدو أكثر توحشا وشراسة، وهذا يتطلب أن تقوم الحكومات العربية التي تعاني من ويلات ومغبة التطرف والإرهاب بتدشين مراكز ومؤسسات نوعية لدعم المواطنين بصفة عامة والشباب العربي على وجه الاختصاص لمواجهة الفكر المتطرف وأصحابه من خلال آليات لعل أبرزها نفس الممارسات التي ينتهجها هؤلاء المتطرفون وهي المقاطعة السيكولوجية، ولعل سلاح المقاطعة السيكولوجية من أنجع وأنجح الأسلحة الثقافية الصامتة في مواجهة أصحاب الإقصاء والغلو والتكفير أنفسهم من أجل العودة إلى مراجعات فكرية ذاتوية.

وبالرغم من كثرة المؤتمرات والندوات والمنتديات والمبادرات التي تستهدف مواجهة التطرف والإرهاب، إلا أنها لم تفلح أبدا حتى الآن لثمة أسباب متفرقة وليست مجتمعة، منها أن الفئة المستهدفة من هذه اللقاءات غائبة، وبات الجمهور من النخبويين أصحاب الياقات البيضاء المهمومين بالتنظير دون التطبيق لاسيما وأن العشرات من مرتادي هذه المؤتمرات من ساكني البرج العاجي البعيدين تماما عن طروحات المتطرفين ونكبات التطرف.

فضلا عن أن تلك المؤتمرات والندوات تسعى إلى إيجاد صيغة يطلق عليها في العموم توصيات هي أشبه بنصائح الطبيب غير المكتوبة في روشتة العلاج، لذا لا المريض يأمل في الأخذ بها، ولا الفئة المستهدفة الغائبة وهي الشباب يسعى جاهدا للعمل عليها. لذا فلعل تلك المؤتمرات التي بدت باهتة وبليدة في بعض الأحايين تسعى بصورة إيجابية في البحث عن إجابات وافية وشافية لسؤالين. الأول: لماذا يفكر هذا الإرهابي أو المتطرف في قتل المخالف لأيديولوجياته ومرجعياته الفكرية؟ والثاني: ما اللحظة الفارقة بذهن المتطرف التي يقتل فيها نفسا حرم الله قتلها إلا بالحق؟ وما الحق إذن من وجهة نظره هو، ووجهة نظرنا نحن؟ تلك هي الأسئلة التي ينبغي من خلالها التصدي لمواجهة التطرف والإرهاب ثقافيا.

ولست ممن يروجون لفكرة أن المتطرفين وقعوا فريسة لتفسير النصوص في صورتها الحرفية السطحية، فتلك الإشارات والتنبيهات أصبحت وباتت من كلاسيكيات التأويل لراديكالية الإرهابي، وخصوصا أن المنتوج الإلكتروني استحال متاحا ليدغدغ فكر المتطرف ويراجع منطقه حتى ولو خلسة بعيدا عن أميره أو قائده في طائفته أو جماعته أو تياره المتطرف.