الجنس الأنثوي لا يزال مُعذَّبا بالخوف والارتياب

مينيكه شيبر تدخل طبقات تاريخ الجسد الأنثوي لترى كيف تؤثر الأساطير والدين والثقافة الشائعة على الطريقة التي بدأنا بها النظر إلى أنفسنا وإلى الجنس الآخر. 
النشاط الجنسي أصبح متصلا على نحو أكبر وأكبر بالقوى الإلهية التي كانت تخصب الأرض
طوال قرون كانت الأبحاث حول المجتمع البشري أبحاثا ذكورية

منذ زمن سحيق، وعلى أساس الاختلافات بين الجنسين؛ تأسس نظام لا يزال يحدد بقوة نصيب الرجال والنساء من السراء والضراء. إن السلطة تُولِّد الخوف – الخوف من فقد سلطة المرء المكتسبة. وتتجلى السلطة والخوف كلاهما في تيار لا يمكن إيقافه من التعليقات الذكورية على أجزاء الجسد الأنثوي الجامحة وغير الخاضعة للسيطرة، بينما جرى كنس الأفكار الأنثوية حول هذه الأجزاء من الجسد ومداراتها تحت سجادة الأبدية. لقد كانت المعلومات المستقاة من النساء حول جنسهن نفسه نادرة حتى القرن الأسبق. لا شك أنه كانت لديهن أفكار عن أجسادهن "وعن أجساد الرجال"، لكن حتى وقت قريب كان لآرائهن تأثير ضعيف على العلاقات الاجتماعية. وكانت المعرفة التي لديهن إما تتم مصادرتها في صمت من قِبل الجنس الآخر أو تقديمها كمعرفة غير احترافية.
انطلاقا من هذه الرؤية غاصت البروفيسورة والكاتبة الهولندية مينيكه شيبر في كتابها "تلال الفردوس... تاريخ الجسد الأنثوي بين السلطة والعجز"، داخل طبقات تاريخ الجسد الأنثوي لترى كيف تؤثر الأساطير والدين والثقافة الشائعة على الطريقة التي بدأنا بها النظر إلى أنفسنا وإلى الجنس الآخر. مؤكدة أن أغلب ما قيل وكُتب عن الجسد الأنثوي يعود في الأصل إلى مصادر ذكورية أو تلوَّن بوجهات نظر ذكورية".
وأضافت في كتابها الذي ترجمه عبدالرحيم يوسف، وصدر عن دار صفصافة "طوال قرون كانت الأبحاث حول المجتمع البشري أبحاثا ذكورية. أما الأبحاث من وجهة النظر الأنثوية على المستويات المحلية والوطنية والعالمية فهي حديثة نسبيا: نحن لا نعرف ماذا كانت تقول النساء أو يعتقدن فيما بينهن، فقد كتبوا القليل نسبيا ولم تجذب تقاليدهن الشفهية الانتباه إلا منذ سبعينيات القرن العشرين. قبل هذا الوقت كان هناك عادةً اهتمام أقل بالإسهامات الأنثوية مقارنة بإسهامات الذكور في المجتمع، غالبا لأن معظم الأنثروبولوجيين كانوا رجالا استراحوا ضمنيا لفكرة أن أمر النساء ليس مثيرا للاهتمام بالفعل. علاوة على ذلك فقد كانت لديهم غالبا فرصة أقل في الوصول إلى النساء في الثقافات التي كانوا يقومون فيها بأبحاثهم الميدانية. هكذا جرى اختزال النساء إلى جماعات صامتة". 

mankind
معظم الأنثروبولوجيين كانوا رجالا 

ولفتت شيبر إلى أنه "نتيجة للرسائل الذامَّة الكثيرة حول طبيعته ومظهره الخارجي، كان الجنس الأنثوي ولا يزال مُعذَّبا بالخوف والارتياب بما لا يقل عن نظيره الذكر. وأدى الانشغال القهري بالمظهر إلى حلقة مفرغة: حيث تتنافس النساء مع أجسادهن لجذب انتباه الرجال. لقد اختزلت النساء أنفسهن، من أجل الحفاظ على الذات، إلى أشياء، حيث لا توجد تقريبا أي خيارات لتحسين مصيرهن غير أن يبدين جذابات جنسيا ويجدن زوجا. وبمجرد تحقيق هذا، لا يبقى في الحياة شيء صغير يحرزنه إلا أن يلدن نسلا يُفضَّل أن يكون من الذكور. إن الجرعات الزائدة بطول قرون من التعليقات المستخفة قد أثارت لدى كثير من النساء حساسية مفرطة تجاه النقد الهدام. لا عجب أن صناعة الإعلانات اليوم حريصة على الاستفادة من الحاجة الأنثوية القديمة لنظرات الاستحسان، وهي حاجة مازالت الأمهات القلقات يمررنها ضمنيا إلى بناتهن".
وأوضحت أن الأساطير تقدم نظاما اجتماعيا مرغوبا وتُبقي الناس في القبضة المحكمة لحكاياتها. وتشكل خصوصية صارمة تدوم طالما لا يوجد أي بديل جذاب. وأضافت "أغلب الأساطير تؤكد نظاما يكون الرجال فيه هم القادة، بالرغم من أنهم ظلوا معتمدين على النساء من أجل النسل. لم يؤد هذا الاعتماد فقط إلى السيطرة على نشاط الأنثى الجنسي، بل كذلك إلى حاجة ذكورية بالغة للتعويض في الأمور السياسية والثقافية والدينية. وإلى ميل بارز إلى المناطقية (أي السلوك الحيواني الخاص بتحديد منطقة خاصة ومنع الآخرين من دخولها – المترجم)؛ بإقصاء النساء من المناصب التي لم تكن الاختلافات النوعية فيها غير ملائمة كليا. لم تقم الميثولوجيا والثقافة الشعبية وحدهما بذلك، بل قام الفلاسفة واللاهوتيون أيضا بالتحذير من أن جسد الأنثى يمكنه أن يخل بالنظام المنصوص عليه ويسبب الكوارث".
ورأت شبير أن أحادية المنظور الذكوري قد حظيت بحماية إضافية في المجتمعات التي لم يكن مسموحا فيها للنساء حتى بالتلاوة أو التعليق علانية على أنواع ذات سلطة – النصوص المقدسة، الأساطير، الملاحم، وأحيانا حتى الأمثال. مثل هذه القواعد زادت في تقليص الإسهام الأنثوي في تشكيل التقاليد. ففي بعض الثقافات والأديان لا يزال غير مسموح للنساء بتلاوة، ناهيك عن تأويل، النصوص المقدسة أو عالية المكانة أو قيادة الطقوس الدينية.
وقالت إنه على مدار القرن العشرين، اكتسبت النساء حريات لم يكن بمقدور أمهاتهن إلا أن يحلمن بها. ولم تعد الخبرات الأنثوية بأجسادهن وأجساد الجنس الآخر كتابا مغلقا. والخبر الطيب هو أن الحدود التي كانت فيما مضى مرسومة بصرامة بين الرجال والنساء بادئة في الاختفاء. العلاقات بين الجنسين تتغير ومساحات التحول بينهما تصبح أكثر ازدحاما. إن الاختلافات الجنسية، في بعض الأماكن، تغدو ذات حمولة اجتماعية أقل. وأينما كان هذا صحيحا، لا يعود الناس مضطرين إلى التظاهر بأنهم فائزون عنيدون أو خاسرون غاضبون من جنس أو الآخر. تتخذ العلاقات أشكالا جديدة وتُولّد الحاجة إلى اللقاء على قدم المساواة انفتاحا متبادلا. في القرن العشرين بدأ الفنانون في الرد بسخرية على الإرث المثقل بالقيم القديمة، مثلما فعلت نيكي دي سان فال في ستوكهولم بعملها Hon – en Katedral (هي كاتدرائية، 1966). هذه المنحوتة العملاقة (6 × 23.5 × 10 أمتار) لامرأة مستلقية وساقاها مفتوحتان على اتساعهما داعية الزائرين إلى القدوم والنظر إلى جسدها من الداخل. ثمة مهبل هائل كان هو المدخل إلى مساحة داخلية مبهجة مليئة بمصادر الجذب، تضم سينما ذات 12 مقعدا، وقبة سماوية، وحوض أحياء بحرية، وبارا يقدم حليبا ووجبات خفيفة في مكان تجويف الثدي، بل ومكتبة. لا عجب أن الرجال والنساء والأطفال اصطفوا كي يدخلوا. تلك تغيرات جماعية جديدة نسبيا سبقتها ألفية كان فيها نصف البشرية مقيدا باستمرار على أساس امتلاكه أجزاء "منحرفة" في الجسد، وكثيرا ما وُصف هذا الجنس بأنه "مصدر كل الشرور". لقد أثارت الاختلافات الجنسية مواقف مشوهة لا يزال كثير من الناس يعتبرونها عادية".
وأكدت شبير أن أجزاء الجسد الفريدة لدى النساء قد لعبت دورا حاسما في هذا الإرث. وكانت الحاجة الذكورية للأجزاء التي تفصل النساء جسديا عن الرجال دائما عظيمة ولا يوجد أي نقص في تعليقات الذكور عليها. ويفيض المدح الذكوري للنساء بمشاعر مختلطة تتراوح بين السلطة المطلقة والعجز المطلق، بين البهجة وبين انعدام الأمن وانعدام الثقة والخوف. وهذا الكتاب هو عن هذه المشاعر الملتبسة نحو أجزاء الجسد الأنثوي الحيوية والمرغوبة والمحسودة والمفترى عليها".
ولفتت إلى إن قصص وأحلام الرجال الخائفين من النساء والتي تُحكى في جلسات العلاج النفسي تشبه إلى حد مذهل وقائع مشارا إليها في الأساطير والقصص القديمة. إن حجر الماضي الأسطوري الثقيل يرزح على ظهر الحاضر المعاصر. إن إسقاط الدوافع التدميرية على الجنس الآخر يحول النساء إلى وحوش أو ساحرات يحتفلن بشهوتهن الرهيبة على حساب خير الرجال، بينما في الواقع يحدث العكس أكثر بكثير. فبعد العمل لسنوات مع القتلة والمغتصبين، ذكر طبيب نفسي في سجن أميركي بعد مأساة إطلاق نار أخرى أن العنف ضد النساء يأتي دائما في الغالب من شعور بعدم الأهلية يصيب بالشلل: حيث يبدو كل إيمان برجولة المرء مفقودا. أنت لا تحقق أي نجاح مع النساء وعندئذ تأتي بفعل عنف دراماتيكي سيولّد أخيرا ذلك الاهتمام الذي كنت تتوق إليه طوال تلك السنين: الثقافة السائدة مليئة بأبشع أشكال كراهية النساء، ومواد البورنو الآن صناعة بعدة مليارات من الدولارات – تسيطر على كثير منها الشركات الأميركية الكبيرة.  

الجنس البشري
الهولندية مينيكه شيبر

واحد من الأشياء الملفتة حول جرائم القتل الجماعي في الولايات المتحدة هو كيف نجد باستمرار أن القتلة يعانون تماما من الخزي والإذلال الجنسي، وهو ما يلقون اللوم بسببه حتما على كاهل النساء والفتيات. وكانت الاستجابة لمشاعرهم بعدم الأهلية هي أن يضعوا أياديهم على مسدس "أو مسدسات" ويبدأوا في قتل الناس بالرصاص".
وأوضحت شبير أنه "بفضل الزراعة، اكتسب الناس رؤية جديدة لموقفهم. بقدر ما كان الصيد نشاطا مقدسا، أحيطت الزراعة بالأسرار المقدسة. نظر الناس بخشية دينية إلى القوى الخفية للأرض التي تحتوي وتُخرج كل المخلوقات والنباتات والحيوانات والبشر كما لو في رحم حيّ. لا بد أن أغلب الأنشطة الزراعية كانت محاطة أو مسقطة على القوى الخاصة بإلهة ما، ومتحققة بالخشية الدينية والاعتقاد بضرورة القرابين. وكانت الأرض كأم مغذية للحياة تُعتبر مليئة بقوة السحر، وجسدت العلاقة بين النظامين المرئي وغير المرئي. كانت الآلهة والبشر والحيوانات والنباتات جزءا من نفس الطبيعة وشكلوا كلاً عضويا. ولضمان حصاد ناجح، قُدمت القرابين: عادةً كانت أول بشائر الذرة تُترك واقفة في الحقل وأول الثمار تُترك على الأشجار – كإشارة إلى إرجاع الحق إلى أهله. كانت هناك قرابين من الحيوانات أو البشر، من أجل إعادة تدوير الطاقة المقدسة، من خلال رؤية كلية للواقع".
ورأت أن النشاط الجنسي أصبح متصلا على نحو أكبر وأكبر بالقوى الإلهية التي كانت تخصب الأرض. في ميثولوجيا العصر الحجري الحديث أصبح يُنظر إلى الحصاد كثمرة لزواج مقدس. وحَّد المطر جنسيا بين السماء والأرض. كانت الأرض أنثى، وبذرة السماء ذكرا. وفي بعض الثقافات كان الناس يمارسون جنسا طقسيا عند زراعة محاصيلهم. أما الاعتقاد بأن الموت والعودة إلى الحياة من جديد متصلان على نحو غير قابل للانفصال، فقد تطور إلى منطق ذي عواقب درامية: ففي دائرة الأبدية ستحدث كوارث من المستحيل تداركها إذا لم يُسفك دم قربانيّ. والربة الأم، رغم أنها كانت لا تزال تُعتبر محبة وكريمة، بدأت في التغير إلى شخصية متقلبة بعض الشيء أو حتى قاسية، بسبب كل القرابين التي اعتُقد أنها تتطلبها من أطفالها".
وتابعت "في الأصل كان يجري تمثيل الإلهة الأم كشخصية مستقلة وكمصدر مانح للحياة دون تدخل ذكوري. تطورت هذه الصورة إلى شكل من التعاون الجنسي: أولا كان على إله السماء أن يمطر بذوره المخصبة، قبل أن تتمكن الأرض من إنتاج أي شيء. وفي النهاية تلاشت الأرض الخالقة والمنتجة تدريجيا من الصورة، وأصبحت عملية الخلق مسؤولية كاملة لزوجها المقدس أو تم الاستيلاء عليها من قِبل إله ذكر مستقل من السماء دون أي قرينة أنثى. يمكن رؤية القوة العظمى للإلهات في الصور والأساطير المبكرة التي تبجل الخصوبة الأنثوية بطرق شتى؛ من ربة الثعابين إلى ربة البحر أو ربة القمر أو ربة العذارى أو ربة تصنع البشر من الطين. كان المفتاح الأصلي للغز الحياة هو الأنوثة، قبل أن ينتج الحياة خالق ذكر مستمنٍ وحده تماما أو يخلق الحياة بفضل أنشطة تناسلية/خلقية أخرى. في الأصل كان لدى الأرض الأم كافة الإمكانيات للصعود إلى مرتبة (الربة الأعلى)، لكن مسارها أعيق عند السقف الزجاجي لزواجها المقدس من السماء. أصبح لا سبيل لتجاوز هذا السقف الزجاجي بشكل أكبر بفضل التطورات التي أشار إليها ميرتشيا إلياده بأنها استمناء تدريجي للمجتمع.