الحبيب بيدة في معرضه بمتحف قصر خير الدين

حساسية فائقة تجاه مساحة القماشة حيث نسمع بلطف بليغ إشراقات هي بمثابة الأصوات الطالعة من اللوحات.
حالة جمالية ضمن عمل على استنهاض المتجدد والحي الكامن في التراث لرؤية ذات حالمة في شخصيتها وهويتها
سردية ملونة فيها الحاضر والذاكرة  والأصوات في سيمفونية تتطلب الإنصات إليها جيدا

الفن هذا الترجمان والحالة والدواخل في ألقها حيث لا مجال لغير الذهاب تجاه ما به الكينونة عالم قول وألق وحرقة نحو الانسان في سيره بين لونين.. الحالة والآلة.. الوردة والسكين.. هي لعبة القلب والروح والعين.. والآذن إنصاتا للتفاصيل والكائنات وتشوفا للأعالي حيث فراشات مزركشة من ذهب الأزمنة في هبوبها الناعم.. حيث نهر ينحت مجاريه في الصخر.. وحيث الأصداء الضاجة بالأغاني وما يشبه النواح الخافت.
هكذا هي بعض أو كل حكاية الفن يتقصدها الفنان الذي تفر إلى تلويناته الجهات وتصعد الأحلام للأعالي مع إيقاعه المربك بين قلقين. نعم تسعد الكائنات بألوانها مثل شموس الربيع الناعمة. والفن - هنا - ما تتركه الشمس من نور وظلال وأطياف على قماشة.. قماشات قدها صاحبنا من دواخله القديمة الجديدة قبل حوالي خمسة عقود وإلى الآن. 
أشكال وأجسام وما شابه ذلك من علامات وفق نسق من الخطوط بايقاعات متداخلة في فضاء مفعم بالألوان المتعددة التي تخيرها الفنان ليحيل المجال العام للوحة إلى كون من التجريد الباذخ وفق مقتضيات الخيال الفني الشاسعة ليخلص الأمر بالنهاية إلى مساحة جمالية دالة هي الفسحة القائلة بالبهجة .. بالشجن .. بالنظر تجاه كل شيء والمنطلق نظر للذات السابحة في كينونة لونية .. هي حيز مهم من شواسع فنان وتجربة.. وحياة.. نعم الفن هو حياة بتقلباتها وتطور مراحلها وبصور أحلامها وانكساراتها. الفن هو -  وهنا – هذا الترحال نظرا وتأملا لاستعادة الجوهر والكامن فينا من الأشياء الدالة على الجمال.
وهنا أيضا وفي هذه التجربة التي نقتحم منزلها اللوني لنتوغل في باطن قولها الجمالي وتعابيرها المقترحة. عوالم من صوفية الأحوال حيث نلمس حساسية فائقة في التعاطي مع اللون تجاه مساحة القماشة وكأننا نسمع بلطف بليغ إشراقات هي بمثابة الأصوات الطالعة من اللوحات وهي تأخذ أمكنتها على الجدران في معارض شتى من بلدان العالم.
لون فني رافق السيرة والمسيرة حيث اجتماع الإبداعي والأكاديمي منذ سبعينيات القرن الماضي. رحلة مفتوحة على القراءة والنظر العميق والتأويل حيث القلب علبة تلوين والقماشة صفحة من كتاب الذات القائلة باللون والرسم والجمال ملاذا وذهابا نحو الأقاصي في عالم معولم يتجه به البعض إلى متحف مهجور فيه الإنسان مجرد رقم. وهنا يصرخ الجمال الملون في الذات الأمارة بالحياة والحرية والسمو... وهكذا.
نلج عوالم الفنان المبدع والأكاديمي الحبيب بيدة الذي عاش وسط تجارب مختلفة في الحراك الفني التشكيلي لحوالي نصف قرن ليتوزع مقترحه الجمالي الفني بين البحث والدراسة والنظريات والإبداع التشكيلي بما ساهم في تشكيل حيز من التجربة الفنية البارزة في الثقافة التونسية المعاصرة طبعا إلى جانب تجارب وأسماء دالة مثله نعود لبعضها في غير هذه المساحة.
الحبيب بيدة ابن الجزيرة .. قرقنة الباذخة بزرقة البحر وشموخ نخيلها وناسها القدامى والآنيين الطيبين، التي منحته السكينة المبثوثة في لوحاته. والتي وهبته سحر التلوين المستبطن هدأة الذات وهيجان الحال وعنفوان الأسئلة وقلقها الجمالي الجميل. توزعت خطاه بين ما يحيل إلى الرسام والناقد  والجامعي الباحث .. منذ أريعين عاما وخلال سنة 1980  كان معرضه الأول وبعده تعددت وتنوعت مشاركاته في المعارض والأنشطة الثقافية بتونس وخارجها.

شهدت تلويناته فضاءات عدة بكل من ليبيا والمغرب والجزائر وموريتانيا  والإمارات العربية المتحدة وعمان والكويت وسوريا والأردن وسويسرا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا ورومانيا وبلغاريا والهند وكوبا وغيرها. كما كانت "شيم" التجربة التي حضر ضمنها فنه وفكره، ويا حسرة على "شيم" وغيرها.
هام منذ البدايات بالتراث وأسئلته ضمن الراهن والحداثة  الفنية وفق نهج من البحث اختطه لنفسه وفق لعبة التجريب والتجديد الشاقة وتفرعاتها المضنية وكل ذلك بعقل الدارس الباحث والفنان. من الخزفيات انطلق نحو الآفاق قائلا بالفن في تجريديته العميقة الدالة كحالة جمالية ضمن عمل على استنهاض المتجدد والحي الكامن في التراث لرؤية ذات حالمة في شخصيتها وهويتها وفي هذه العوالم المعولمة حيث رياح المتغيرات العاصفة. مضى في هذا الأسلوب التلويني حاملا بيد شعلة الفكرة وباليد الأخرى راية الرسام في حميمية فارقة تجاه القماشة وعالمها الفسيح. 
في أعماله حوار تلويني فيه الحسي والحميمي والوجداني ضمن وعي بين بمختلف علاقات وتقابلات كل ذلك فنحن تجاه لوحاته نغوص في شواسع لونية سارة ومحبذة للنفس/ العين تحيل إلى عوالم صوفية عنوانها الحيرة البهجة الحلم التواصل الحضور. والأنا.. هي أناه اذ يفصح وبتقنيته المخصوصة هذه عن ألوانه هكذا ودفعة واحدة في أرض اللوحة.
 فسحة من النور والتجلي اللوني واللقاء الجمالي. سردية ملونة فيها الحاضر والذاكرة  والأصوات في سمفونية تتطلب الإنصات جيدا ليس اليها فحسب بل إلى ينابيعها التي اجترحها الفنان من تلك السنوات الأولى في العلاقة بالفن وهو بهكذا دأب يأخذنا طوعا وكرها إلى جغرافيته الملونة بتشظي الفكرة ومقترحها الفني الرائق شكلا وعبارة ورموزا وعلامات في ثنايا الخطوط باتجاهاتها الشتى. إننا قدام لوحاته وكأننا ننتبه للأصوات تعلو .. تنبثق.. تنمو.. تصعد.. ضاجة وهادئة.. ناعمة.. وهي بالنهاية لعبة التلوين بعيدا عن التعقيد. إنها البساطة عنوانها الجمال.. البساطة أصعب أفعال الشاعر على عبارة سعدي يوسف. وبيدة في لوحاته وتجريدياته هذه ومسيرته شاعر في اللون والأسلوب والوعي وهدوئه النادر.
نعم.. أصوات وحالات وأمنيات وشهوات وترنيمات. تخرج من اللوحة مع هذا التعاطي "البيدي" تجاه الخيط الناظم لمختلف تلويناته. إنها تفاعلات فنان لا يعنيه من ضجيج الحياة والساحات والشخوص غير ما تقترحه بصماتها بخصوصياتها حصولا بالنتيجة على عمل فني مبهج ومحبب للروح مهما كانت حالات منتجه الفنان الحبيب بيدة. هي عصارة النظر والتأملات ولفنان ابن عصره وبوعي طفل يخط براءة الأفعال بحروف التلوين. الأزرق .. الأصفر.. الأحمر .. وغيرها حالات روحية للحبيب وهو يحاور العمل في مراحله ويحاوله نحتا للقيمة وقولا بالكيان في عنفوان بهائه النادر.
أعمال ودأب تشكيلي وجمالي وفكري وفق بحث لعقود حيث الألوان وباطنها فكرا ورؤية ونسقا وروحا في ضروب من الجمال المبثوث في أرجاء اللوحات بتوقيع فنان يواصل نهجه بذات إصرار البدايات قبل نحو نصف قرن. إنها حكاية الولع والوله بالفن تجاه العالم من خلال النظر للذات. الحبيب بيدة.. الإبداع والإمتاع .. التجربة والمسيرة.