الحروب والحصار و'الغول البهي' لعمار الثويني

الرواية الرابعة للعراقي عمار الثويني تستحوذ على القارئ لمعرفة خفايا وأسرار وأسباب الجرائم ودوافعها، وتنبش في حقيقة المجتمع والسلطة، وغياب العدالة التي تؤدي إلى الظلم والفساد وضياع الحقوق.
مفارقة كبيرة تناولتها الرواية، وهي نشوء طبقة ثرية جديدة من الفلاحين
وقائع الرواية تشكلت نتيجة أحداث جسام عصفت بالعراق الى جانب التصفيات وبروز الطوائف وحوادث التفجير
'الغول البهي' مع ما فيها من جرائم متسلسلة بشعة لا يمكن اعتبارها رواية بوليسية

في لعبة سردية جميلة ومتقنة، يبحر الروائي العراقي عمار الثويني في عراق تسعينيات القرن الماضي في أثناء الحصار، ويدخلنا في لجة الأحداث وصخبها لكأننا نعيشها ونترقب كشف غوامضها، ولكنه في نهاية الرواية يتنصل من كل ذلك، بأن الشخصيات والأحداث والأمكنة كلها من نسج الخيال، ومن لا يعرف العراق، لن يدرك ذلك، فكل شيء مألوف، ويتماهى مع العراق وظروفه والأحداث العظام التي أثرت على كل شيء.
ولكن، فكل ما في الرواية واقعي جدًا، حتى الجرائم ممكنة الحدوث بشكل أو بآخر، هنا أو هناك، على يد مجرم واحد أو عدة مجرمين، وأزعم أن الخيال الروائي، كان قاصرًا عن مجاراة الواقع الذي جثم على صدور العراقيين على مر التاريخ المعاصر. نعم، قد تكون المدينة متخيلة، والشخوص من نسج الخيال، ولكن الوقائع والأحداث في غالبيتها واقعية، حدثت وستحدث، ليس في مدينة الكرامة فقط، بل في كل المدن العراقية، وغير العراقية إذا تشابهت الظروف، وتعرضت للويلات نفسها أو قريبًا منها، وما تسمية المدينة باسم "الكرامة" إلا رسالة مؤلمة بأن كرامتنا على المحك، إن لم تكن ديست أصلًا، فأي كرامة للإنسان وهو تحت وطأة الظلم والفساد وانعدام الأمن، وغياب العدالة الاجتماعية والطبقية الصارخة، وارتفاع الأسعار وإظلام الأفق؟!

  عمار الثويني يبحر في لعبة سردية جميلة ومتقنة
عمار الثويني يبحر في لعبة سردية جميلة ومتقنة

"الغول البهي" عنوان يحمل تناقضًا ومفارقة، فكيف يكون الغول بهيًا؟! وهذا يذكرنا بمفارقات عديدة وعناوين نتعامل بها على هذه الشاكلة مثل: "الموت الجميل"، "الصديق اللدود"، "ضجيج الصمت"، "الفوضى الرتيبة"، "الصعود إلى الهاوية"، "شمس باردة"، وغيرها كثير. وتكشف الرواية -لمن يهمه أمرها- عن سر هذه المفارقة والعنوان المحير
ارتكز البناء السردي للرواية على مجموعة من الجرائم المتسلسلة التي هزت أركان مدينة الكرامة، وبثت الرعب في قلوب سكانها، ولكن كما يقول الثويني: "ليست الجرائم وحدها التي صيّرت هذه البلدة أخطر مدينة في العراق، بل إن تنفيذها أماط اللثام عن الكثير من القصص والحكايات والمفاجآت، غير الأحقاد التي انفلتت من عقالها لتخلط الأوراق"، وهنا "مربط الفرس" كما يقولون، فالجرائم لم تكن هي المقصودة، بل ما أحاط بها أو مهد لها من اختلالات وتغيرات ومشكلات وظروف غير طبيعية وغير سوية لبلد تحت الحصار الخانق ولمدة طويلة، والجرائم تحصيل حاصل، ونتيجة متوقعة لهذه الظروف والأحوال.
تشكلت وقائع الرواية ومجرياتها وحكاياتها نتيجة لأحداث جسام عصفت بالعراق كله، والمنطقة في بعض منها، وهي بالترتيب: الحرب العراقية الإيرانية التي بدأت 1980 وانتهت 1988، احتلال الكويت 1990 ثم الانسحاب منه بالقوة 1991، الانتفاضة الشعبانية(الشعبية) 1991 في جنوب وشمال العراق، الحصار الصارم الذي بدأ من 1990 وانتهى 2003، سقوط نظام البعث والاحتلال الأميركي 2003،  وما تلا ذلك من تصفيات وبروز الطوائف والانتخابات والصراعات والجماعات المسلحة وحوادث التفجير والتدمير التي لم تنته بعد.


قد تكون المدينة متخيلة، والشخوص من نسج الخيال، ولكن الوقائع والأحداث في غالبيتها واقعية، حدثت وستحدث، ليس في مدينة الكرامة فقط، بل في كل المدن العراقية، وغير العراقية إذا تشابهت الظروف
 

الأحداث السابقة المتوالية، لم تترك للعراقيين مجالًا للراحة والتنفس والعيش كبقية البشر بهدوء وأمن وسلام وعدالة وكرامة، بل كانوا في مهب الريح، يقبضون على الجمر، لا يدرون ما يخبئه الغد لهم داخليًا وخارجيًا، فقد كانوا يعيشون تحت رحمة زلازل وبراكين تتبادل الثوران في لعبة خطرة، يرافقها الموت في كل حركة، وهذه الأحداث لو تعرض لها بلد آخر ربما لأصبح ذكرى أو على الأقل أصبح خرابًا أو مقسمًا، أو تحت رحمة حرب أهلية مدمرة، ولكن العراق العظيم، ما زال وسيبقى صامدًا، نعم تعرض لويلات وقلاقل ومشكلات قاسية، ولكنه سيتجاوز كل ذلك، وسيعود العراق الجميل القوي، العراق الذي يتغنى به العرب، عراق التاريخ والأمجاد، العراق الذي نحب ونحلم أن يكون.
الحروب تأكل الأخضر واليابس، تقتل الرجال، وترمل النساء، وتيتم الأطفال، وتستنزف الأموال ومقدرات البلد، وتجعل المستقبل على كف عفريت، فكل شيء موجه للحرب، وكل المشاريع مجمدة. الحروب مواسم حزن وبكاء وعويل، أما الفرح فمؤجل إلى إشعار آخر، كما أن للحرب أمراضها وكوابيسها وصدماتها وخساراتها وتأثيراتها القاسية والمؤلمة على النفوس التي من الصعب التخلص منها بسهولة، وتبقى غصة لا تزول، وجراحًا لا تندمل. أما الانتفاضات الشعبية التي تطال مؤسسات البلد ومقدراته، فهي تدمير ذاتي، وتوجيه السلاح إلى صدور الأخ والجار، إنها سرطان يفتك بالجسد دون رحمة. ويأتي الحصار كحرب استنزاف طويلة الأمد، ينشر الخوف، ويضبب المستقبل، ويثير الأحقاد والكراهية والأنانية والحسد، ويجذر الفساد والتحايل والكذب، ويخلق طبقات من المتنفعين ومستثمري آلام الناس وحرمانهم ودموعهم، ويكشف الرذائل وضعف النفوس وخبثها وحقيقتها. أما سقوط النظام وما تلاه، فقد خلق مشكلات جديدة، وأرسى قواعد مختلفة، وأبرز رجالات وقيادات متباينة متصارعة، نقلت العراق من حال إلى حال، ولكن حقيقة الحال لم تتغير ما دام المواطن لم يشعر بحريته وكرامته، ويحصل على حقوقه كاملة، ويعيش في أمن وأمان، وثقة بالمستقبل، وتغيير الرؤوس لا معنى له إن لم ينعكس ذلك إيجابًا على المواطن، ويحدث الفرق الذي يحلم به!!
ثمة مفارقة كبيرة تناولتها الرواية، وهي نشوء طبقية ثرية جديدة من الفلاحين والمزارعين الذين يزرعون القمح والشعير والذرة في أثناء الحصار، وانعكس ذلك بشكل كبير وواضح على حياتهم، وهذه المفارقة تؤكد على حقيقة صارخة أن الزراعة هي أساس الاستقلال والكرامة وحياة الدول، وأي دولة تعتمد في طعامها وخاصة خبزها على الغير، ستبقى تابعة خاضعة ذليلة، ولذا، ففي ظل الحصار الخانق، صعد من بيدهم قوت الناس ومأكلهم، فهم السادة الجدد، والمتحكمين بالأفواه، ولهم الثراء والجاه والحياة الرغدة.
وترجمت الرواية مدلول المثل الشعبي "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فعندما انتشرت الجرائم، واضطرب الأمن في مدينة الكرامة، هرع الناس إلى شراء الأسحلة النارية والبيضاء، وعملوا على تحصين بيوتهم وخاصة أبوابها، وإضاءة المناطق المعتمة، وكل ذلك أدى إلى انتعاش وازدهار تجارة الأسلحة بأنواعها، وازدياد الطلب على الحدادين وخدماتهم ومحلات مواد البناء، بالإضافة إلى الحرص على التزود بالوقود والمواد التموينية تحسبًا لأي طارئ، وهذا يقودنا أحيانًا إلى تساؤل عن سياسة خلق الأزمات والمشكلات واستثمارها لتحقيق أهداف محددة، وكل مشكلة في العادة تؤدي إلى ازدهار جانب أو أكثر، فجائحة كورونا مثلًا ضاعفت الطلب مئات المرات على الكمامات والمنظفات والمعقمات والفيتامينات والزنك وأدوية المناعة والأكفان، بالإضافة إلى انتعاش التجارة عن بعد والعمل عن بعد والتعليم عن بعد وغيرها الكثير الكثير، وخلقت وقائع جديدة فرضت نفسها ووجودها.

 أي كرامة للإنسان وهو تحت وطأة الظلم والفساد وانعدام الأمن، وغياب العدالة الاجتماعية والطبقية الصارخة، وارتفاع الأسعار وإظلام الأفق؟!

رواية "الغول البهي" رواية مثيرة، مشوقة، تستحوذ على القارئ لمعرفة خفايا وأسرار وأسباب الجرائم ودوافعها، ومن خلال هذا الطعم المغري، يتعرف القارئ على حقيقة المجتمع والسلطة، وما يعتمل فيها من مشكلات وصراعات واختلافات وآلام وويلات، وظروف قاهرة، وتشابك المصالح، وغياب الشفافية والعدالة التي تؤدي إلى الظلم والفساد وضياع الحقوق.
والرواية مع ما فيها من جرائم متسلسلة بشعة، إلا أنه لا يمكن اعتبارها رواية بوليسية؛ لأن الرواية البوليسية تتطلب جريمة غامضة، يسعى لحلها وكشف الجاني بطرق وأدوات وإجراءات بوليسية دقيقة ومتقنة، اعتمادًا على الملاحظات والسلوكيات والأدلة وخلفيات الأشخاص وظروف الجريمة، ولكن ما حدث في رواية "الغول البهي" أن إجراءات الشرطة لم تنجح في الكشف عن الجاني، بل تم كشفه بالصدفة بعد أن فشل في جريمته الأخيرة، وأصيب، فهرب خوفًا من الأسوأ، بعد أن تم التعرف عليه. ولكن الرواية تعد من روايات الجريمة، لما حفلت به من جرائم كانت عماد الرواية وأساس هندستها.
وبعد فإن "الغول البهي،الجزائر:  دار ميم للنشر، 2021 ، 347 صفحة"، رواية سلطت الضوء على فترة مهمة وحرجة من تاريخ العراق الحديث، وما أصاب الوطن والمواطنين من ويلات ومصاعب وخسائر، ونتائج كل ذلك وانعكاساته الخطيرة. و"الغول البهي" هي الرواية الرابعة للروائي العراقي عمار الثويني بعد رواياته: "في ذلك الكهف المنزوي، 2016". "لقديسة بغداد، 2017". "مشحوف العم ثيسجر، 2017". بالإضافة إلى ترجماته لعدد من الكتب الفكرية والسياسية.