قابلية الاستعباد والإفساد في 'حبانجي' للسوري نصار الحسن

الرواية تنتقد بمرارة كل مجالات الحياة في مدينة الحسكة خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين وتكشف حجم الترهل والفساد والعبث والفوضى في كل شيء.

عندما تسير الأمور بشكل طبيعي، وفي مسارها الصحيح أو المنطقي المعقول، يكون ثمة بون شاسع بين الواقع والخيال، بحيث يمكن التفرقة بينهما بسهولة، ولكن عندما تختل كل الموازين، وتختلط الأمور، يتماهى الواقع مع الخيال، والكوابيس مع الحقائق، ولا يستطيع أحد أن يدرك كنه الأمور إلا من عايشها وعاركها، وقد يكذب عينيه وأذنيه من هول وبشاعة ما يعيش، فقد يكون في معرض مشاهدة «فيلم سينمائي لا يصدق» كما قالت المحامية أمل لضيفها المحامي كرم.

رواية "حبانجي" للروائي السوري نصار الحسن، الصادرة في القاهرة، عن دار غراب للنشر والتوزيع، عام 2023، في 232 صفحة، تحكي واقع مدينة الحسكة السورية خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين، هذه المدينة البسيطة الصغيرة –آنذاك- التي تقع شمال شرق سوريا، وتغلب عليها العشائرية وعاداتها وتقاليدها وأعرافها، وذلك على لسان المحامي كرم، بالإضافة إلى حواراته مع الآخرين، ولكن مفتتح الرواية جاء على لسان الراوي العليم.

تنتقد رواية "حبانجي" بمرارة كل مجالات الحياة في مدينة الحسكة، وتكشف حجم الترهل والفساد والعبث والفوضى في كل شيء؛ في القضاء والمحاماة والتعليم المدرسي والجامعي، والعلاقات الاجتماعية، والخلافات العشائرية والطائفية والقومية، والسياسة والحكم، والتوظيف، وغيرها. وهي وإن كانت تتكلم عن مدينة الحسكة، فهي تقصد عموم سوريا في تلك الفترة، ولكن كان الأمر أكثر وضوحًا في الحسكة لبعدها عن العاصمة دمشق، مما ترك المجال واسعًا للشر والسوء أن يستفحل ويعبث ويسيطر على كل شيء، والوضع كما وصفه الأستاذ المحامي "عوجة ورح ضل عوجة" فلا أمل على المدى القريب. وكثير من الصور والمشاهد والوقائع التي تنقلها الرواية أشبه بالخيال، عصية على التصديق، ولكن الواقع العربي العجائبي يسبق أحيانًا الخيال بمراحل، حتى ليشك المرء بنفسه؛ هل يعيش واقعًا أم كابوسًا مزريًا؟!

صناعة العبيد

في مفاجأة صادمة، تكشف الرواية عن وجود عبيد عند شيخ قبيلة إقطاعي شرقي مدينة الحسكة، ولديه محظيات كثيرات، وصاحب نفوذ كبير، وله صلات قوية مع دول خليجية. وعلى الرغم أن وجود عبيد بعيد عن التصديق، إلا أن واقع بعض السادة في غير مكان لا يستبعد ذلك، فلديهم من السلطة والهيمنة ما يُمكّن لهم ذلك بعيدًا عن أي مساءلة، وسيبقى العبيد -بأي صفة كانت- موجودون هنا وهناك، يخدمون سادتهم رغبًا ورهبًا.

ومن جهة ثانية، تسعى السلطة بأذرعها وسياساتها لصناعة عبيد يخضعون لها، ويتعاملون معها باستسلام كامل دون أن يكون لهم حق التفكير أو الرفض أو القرار؛ فسياسات الإذلال والتخويف والإذعان، وتسليط السفهاء والفاسدين ودعمهم، والتعدي على الحريات والأملاك، وإفساد كل شيء، يهدف في حقيقته إلى صناعة العبيد لا المواطنين، وهؤلاء العبيد سيتناسلون عبيدًا جاهزين مؤهلين لاستعباد والإذلال دون عناء.

وتسلك السلطة في تحقيق أهدافها الاستعبادية إلى ذريعة الأمن ومجابهة أعداء الخارج الذين يتربصون بالوطن، وتتهم كل مخالف أو معارض أو مشكك أو حتى مفكر بالخيانة والعمالة، ويتعرض لأبشع أنواع التعذيب، فيخرج -إن نجا- ليصبح عبرة لغيره، فيصمت الآخرون طلبًا للسلامة، وهم على يقين من كذب السلطة وفجورها وظلمها وشعاراتها الزائفة.

إن أخطر ما في الأمر، أن يتولى الأبوان مهمة صناعة العبيد نيابة عن السلطة، فالممارسات التي يسمعان عنها أو يشاهدانها رأي العين، تزرع فيهما الخوف والرعب على مستقبل أولادهما، فيقومان بتربيتهم على الجبن والخوف والاستكانة، وتجنب كل ما يثير ثور السلطة وشهوته للبطش والتنكيل، وإذا تمكن الخوف والجبن في الطفل، فمن الصعب أن يُقلع بسهولة، وسيورثه لأطفاله من بعد، ولن يتغير الحال إلا بطفرات وعواصف تعيد رسم الحياة من جديد.

حبانجي

تعني كلمة "حبانجي" الذي يُزعج ويُؤذي دون سبب؛ أي حبًا في الإيذاء لكل عباد الله ما لم يكن له مصلحة تمنعه من ذلك. وتتناول الرواية شخصية رجل فاسد مفسد أُطلق عليه لقب "حبانجي"، لم يترك أحدًا من شره وأذاه، وكانت له الكلمة الطولى على الجميع، يتحكم ويرسم ويقرر كما يُريد بحبل من السلطة وسكوتها، بل ودعمها، وكان يتخلص من خصومه بالقتل، أو الاعتقال عند الأجهزة الأمنية، وفي أحسن الظروف النقل والإبعاد.

وكان "حبانجي" بغيضًا، مكروهًا عند الجميع، لا يذكره أحد بخير؛ إذ لا يذكر أحد أي خير أو خصلة حسنة له، وكان الجميع يتمنى أن يتخلصوا منه ويروا نهايته السوداء، وجاءت الفرصة عندما قُبض على ابنه متلبسًا بالجرم المشهود في محاولة اغتصاب، ولم يستطع "حبانجي" أن يُغطي على جريمة ابنه وقذارته، والذي كان نسخة منه؛ فشهود العيان كثر، والجريمة حدثت في قصر العدل، ورفعت السلطة حمايتها عنه، فأفلت أيامه، ووجد أخيرًا مشنوقًا في إحدى الساحات؛ فهل انتحر أم شنقه أحدهم؟ لم تذكر الرواية ذلك، فالمهم أنه مات وانتهى، ولكن "حبانجي" مات بشخصه، وترك خلفه مدرسة عريضة تكمل مسيرته وسلوكه ورجسه، فهو ليس شخصًا، بل نهجًا وطريقًا تغلغل في حياة المدينة، ومن الصعب التخلص منه بموت زعيمه، وهذا يعني أن المعاناة ستستمر، تقول الرواية على لسان جورج: إن "حبانجي لم يكن شخصًا ترحل آثامه برحيله، بل بات مدرسة للفساد بأكملها، وأنه كل يوم يكتشف 'حبانجي' جديدًا، بذات القذارة والنذالة، بل إنه يتوقع أنَّ تلك الجينات الخبيثة ستتكاثر، وتطور ذاتها وفعاليتها في محيطها، ثم مجتمعنا".

وشخصية "حبانجي" موجودة بأفعالها وسلوكها في كل مكان يتواجد فيه الفساد والظلم، يعاني منها المخلصون الصادقون، وتعيق طريقهم وتهددهم، وهي أداة في يد السلطة تستخدمها سلاحًا في وجه كل من يرفع صوته أو يتأبى على الخضوع والتسبيح بحمدها وتمجيد ظلمها وفسادها.

عادات وسلوكيات

لا يمكن أن يتمكن الفساد وينتشر الظلم في أي مجتمع، ما لم يكن المجتمع نفسه مهيئًا لذلك بعوامل ذاتية من داخله؛ فالمجتمع يمهد البيئة المناسبة لأنياب الشر والفساد بعاداته غير السوية وسلوكياته السلبية، وإلا فإن الفساد إن لم يجد تربة مناسبة سيحاول ويحاول ثم يفشل ويرحل.

الخال الأكبر للمحامي كرم "الراوي"، كان نموذجًا للحاكم المستبد، فقد كان يفرض رأيه على من حوله، لا يقبل رأيًا مخالفًا، وهو أعلم ممن حوله، ولذا؛ كان الجميع يتجنب النقاش معه ومجادلته، أو يصمتون إيثارًا للسلامة وعدم تعكير الأجواء، وكان غير مرحب به في المجالس والزيارات الاجتماعية.

وكان مجتمع الحسكة يميل لتناقل الحكايات وفضائح المجتمع والزيادة عليها ونشرها، مع أنه مجتمع عشائري محافظ، ولكن شهوة الكلام ولذة الفضائح تفوق قيم الفضيلة والستر والصمت. وكان الناس يرتابون ببعضهم، فلا ينطلقون في الحديث، ولا يتحدثون بصراحة وخاصة في الأمور المتعلقة بالسلطة والحزب والساسة وجوقة المسؤولين صغارًا وكبارًا، فللجدران آذان، والمترصدين كثر من الأقارب والأصدقاء؛ حقدًا وحسدًا وطمعًا.

كما أن مجتمع الحسكة كان يصمت عن الظلم والظالمين، ولا يتدخل لنصرة المظلوم، ويؤثر الجبن والخوف والانسحاب، و"الجبن عصا الظالم" كما قالت أم جورج، مما مكن للظلم أن ينتشر ويعم، وأن تؤكل الحقوق، وتتخلخل العلاقات وتضعف، وييأس المظلوم، ويمرض وقد يموت قهرًا وعجزًا. بل إن الأدهى من ذلك، أن يلجأ البعض للظلمة لتحصيل حقوقهم مقابل الرشاوى التي انتشرت وشاعت، وأصبح لها مكاتب للسمسرة، وكلما زادت سلسلة السماسرة ارتفعت قيمة الرشاوي وزاد العبء.

ومن العادات الاجتماعية السلبية امتداد أيام العزاء لأسبوع أو أكثر، ومن الصباح إلى المساء، مما يثقل كاهل أهل المتوفى، ويرهقهم ماديًا ومعنويًا، ويعطلهم عن أعمالهم ومصالحهم؛ خاصة وأن معظم بيوت العزاء تتحول إلى مجالس للمتبطلين والأحاديث العبثية والقيل والقال، بل وفرصة للمخبرين للاصطياد وتلقط الأخبار، وهي في معظمها ليست للمواساة بل مأساة تضاف إلى مأساة.

وبعد؛ فإن "حبانجي" لنصار الحسن، رواية كتبت بلغة بسيطة جميلة رائقة، وسرد سلس ممتع، ونجحت في جذب القارئ من البداية إلى النهاية؛ بما تضمنته من إثارة وتشويق وأحداث وتنوع وتوغل في النفس والمجتمع. وهي رواية جريئة، تكشف مواطن الفساد ومجالاته في مدينة الحسكة ومثيلاتها، وتضع يدها على بؤر العفن ونماذج السوء، وتشير بوضوح إلى المتسببين في ذلك، وأن كل ذلك سيقود إلى الهاوية، ولن يخدم السلطة إلا مؤقتًا، فالطوفان قادم إن لم تتغير الأحوال ويُقضى على "حبانجي" وتلاميذه وورثته، وتجتث جذور مدرسته ونهجه.  والرواية مع ما تحمله من سوداوية، فإنها تذكر نماذج مشرقة جميلة تبقى نافذة الأمل مفتوحة وتبشر بمستقبل جميل وإن تأخر، فهناك الأم المتفانية، والأب المتوفى صاحب السمعة الطيبة، ومثله الأستاذ المحامي، والمحامية صفاء التي قالت كلمة الحق وماتت لأجلها، والمحامية أمل، وإخوة كرم، وغيرهم من النماذج الحسنة الطيبة.