أشباح وأرواح في 'تمثال الضحك' للعُماني بدر الشيدي

بدر الشيدي يستمد مادته في المجموعة القصصية الرابعة من مخزون التراث الشعبي العماني الغني كغيره من المجتمعات العربية بقصص الجن والأشباح والأرواح ليترجم الواقع المشحون بالضبابية والغرائبية وليعبّر عن شخصيات تعاني من الخيبات.

"تمثال الضحك" للعُماني د. بدر الشيدي، هي المجموعة القصصية الرابعة له بعد: "أشرعة الضوء"، 1995. "الصورة مرة أخرى"، 2014. "مساحة بلون الشمس"، 2018.
 وتتكون من ثمانية وعشرين نصًا تتراوح بين القصة والقصة القصيرة جدًا والمشهد، تناولت موضوعات عديدة في أماكن مختلفة، وكان لافتًا فيها ظهور أشباح وأرواح في ثنايا النصوص، وبعضها كان الشخصية الرئيسة فيها، ولا شك أن الكاتب يستمد مادته من مخزون التراث الشعبي العماني، الغني كغيره من المجتمعات العربية بقصص الجن والأشباح والأرواح، التي كانت ترويها الأمهات والجدات قبيل النوم. ولكن في المقابل، فإن لجوء الكاتب إلى هكذا قصص أو شخصيات يترجم واقعًا مشحونًا بالضبابية والغرائبية، وشخصيات تعاني من التشظي والخيبات والخوف من الآتي، والرغبة في الهروب من الواقع الأليم. 
كما أننا نلاحظ عودة لقصص الغموض والأشباح في الرواية والسينما لما توفره من إثارة وتشويق ورعب، يجذب فئات الشباب والمراهقين بشكل خاص، وتتناول هذه المقالة خمسًا من قصص المجموعة ذات العلاقة:
تمثال الضحك
يحدث سائق الميكروباص الركاب عن قصة حدثت معه ذات ليلة، عندما رأى شخصًا واقفًا "لا يتحرك كتمثال حجري عتيق. كان رجلًا طاعنًا في السن، يلبس دشداشة بيضاء ناصعة، تتدلى من وجهه لحية بيضاء يشوبها السواد. لا يحمل معه إلا عصا طويلة تشبه العمود الخشبي. لم أكترث لوجوده في الطريق، ولم أقف له، وواصلت سيري". 

نصوصه تتراوح بين القصة والقصة القصيرة جدًا والمشهد
نصوصه تتراوح بين القصة والقصة القصيرة جدًا والمشهد

جذبت الحكاية الركاب وخاصة كبار السن في المقاعد الخلفية، فواصل، أنه بعد أن قطع مسافة طويلة، تعطلت السيارة، فجلس ينتظر، وفجأة، رأى في مرآة السيارة الرجل نفسه الذي رآه من قبل يقترب، فشعر بالخوف، وتساءل كيف وصل إلى هنا؟ وما لبث الرجل الغريب/التمثال أن طرق النافذة، "فتحت النافذة، فأطل برأسه، فإذا به رأس حمار، برزت منه أذنان طويلتان وأنف كبير"، وأخذ "يصرخ بأعلى صوته.. رأس حمار.. رأس حمار"، مما أخرس الركاب وأرعبهم.
 وأكمل السائق أنه لم يستطع الهرب، ولكنه اِلتفت إلى التمثال الذي أخذ يضحك ضحكات مدوية، وهو يطرق النافذة بقوة. مما فجَّرَّ ضحك الركاب بصخب وهستيرية.
يا للعجب أن يتحول الإنسان إلى مسخ، وينقلب الجمهور من صمت مرعب إلى ضحك هستيري، أليس هذا حالنا في الواقع، إذ يتلاعب بنا الإعلام والسلطات ككرة قدم؟ تبرمجنا كما تشاء حسب مزاجها ومتطلبات الساعة؟ ألم نتحول في الحقيقة إلى إنسان مسخ يتشكل كما يريدون لا كما نريد؟! هل ثمة فروق بقيت بيننا وبين الربوتات؟!
عند الناصية
كان يسير ظهرًا على غير هدى، متعبًا، عندما رآها واقفة عند ناصية الشارع، فتذكر فتاة رآها قبل سنتين في نفس المكان، كانت عيناها ساحرتين، "أعرفها من تلك الوجنتين ومن خديها المحمرين كرغيف خبز. عندما كانت تتكلم لا أنسى تلك اللثغة في لسانها، وتلك الأصابع الطويلة كما لو كانت سنابل يحركها الهواء"، فأسرع نحوها وهو يتخيلها أكثر جمالًا وفتنة، ولكن ما إن اِلتفتتْ نحوه "رأيتُ خدودًا ذابلة وعينين ذاويتين وخصلات شعر بيضاء، تراجعت للخلف، ورحت أعدو إلى أن وصلت الشقة.

مجموعته القصصية اشتغلت على شخوص الهامش
مجموعته القصصية اشتغلت على شخوص الهامش

 جلست منهكًا، وتذكرت أمي وهي تحدثنا عن الجنية التي تلبس عباءة سوداء، وتقف عند تقاطع الطريق لا تخرج إلا في الظهيرة الحارقة... وقفت على الشرفة، فرأيتها ما تزال واقفة. أتذكر تلك التي رأيتها، شعرها فاحم وعنقها عمود رخامي مصقول، لكني مغمورًا بفرحي اللذيذ  رحت أرقبها".
هل هي جنية فعلًا، أم خُيِّل إليه ذلك؟ إننا غالبًا نشيطن ما لا يعجبنا، ونرشقه بالعيوب، أتراها فعلًا كما وصفها، أم هو تأثير سياط الشمس اللاهبة؟ لم تكن من يحلم، ولكن لا يستدعي ذلك الهرب خوفًا.  هل كانت جنية حقًا؟ وهل تحميه شقته منها؟ إنه الوهم والتسرع في إطلاق الأحكام وشيطنة الآخر والتشفي فيه، وكل ذلك يكشف عن ضعف الشخصية وعدم ثقتها بنفسها وعدم قدرتها على المواجهة المباشرة.
بخور
يتورط الشاب بفتاة رائعة الجمال، فارعة الطول، مصقولة القوام، لها رائحة بخور، تتسلل إلى سيارته التاكسي من مكان مقفر يتعالى فيه نباح الكلاب، وتأمره أن يتحرك: "عندما أكون بنفسي في السيارة، لا أدري كيف تتسلل تلك المرأة وتقحم نفسها في السيارة. في البداية، كان هذا يتم في الليل، ثم تطور الأمر وأصبحت تأتي في النهار، لا أستطيع أن أكون بمفردي في السيارة، إلا وأراها جالسة بجانبي".
كان الناس يرونها معه، فكثرت الأقاويل والشائعات، ولما هم بخطبة فتاة، رُفِضَ بسببها، وحرمته من الركاب ليكسب رزقه، فلا أحد يصعد وهي معه. تعمد أن يصطحب معه أحد الأصدقاء ليتخلص منها، لكنها بقيت جالسة، وصديقه لا يراها. 
استعان بالتماتم والحجب دون جدوى، "ومن ذلك الحين، وتلك الفتاة تشاركني حياتي وتفكيري، أجلس وهي معي، آكل وهي قربي، لا أستطيع الفكاك منها، ولا أستطيع الاختلاء مع نفسي إلا وهي معي، عندما أشم رائحة البخور، أتيقن بأنها قادمة".
إنها قصة تحتمل قراءات متعددة، فهي إلى الرمزية أقرب. وكل منا مبتلى بفتاة بشكل أو آخر، تشاركه حياته وتحرجه أمام الآخرين، وتمنع عنه أسباب الحياة، سواءً أكانت هذه الفتاة مشاغل الحياة التي لا تنتهي، أو الأجهزة الخلوية والإنترنت التي سلبتنا الحياة وتحكمت بنا، أو أصدقاء السوء، أو الرقابة بأشكالها، أو الخيبة والفشل، أو الضعف وقلة الحيلة، أو .... 
سيماء الصمت
يستيقظ الرجل، فيجد نفسه في مكان مظلم، ثم يتبدد قليلًا، فيرى الشوارع مزدحمة بأناس لا يعرفهم، ثم يرى صديقه الذي مات قبل سنوات، ولكن صديقه لا يلتفت إليه، يتبعه، وفي الطريق يتعرف آخرين ماتوا من قبل، وأخيرًا يجلس في مقهى مكتظ، يغلفه الصمت، ولما رأى صديقه يخرج همَّ أن يتبعه، لكن الرجل بجواره أمسك به وأمره أن يجلس فجلس
سواء أكان الرجل حيًا رأى أرواح الأموات يتجسدون من جديد، أم كان ميتًا بين أموات، لا فرق، ما دام الصمت هو السمة، خاصة وأن معظمنا يشعر في قرارة نفسه أنه ميت يتحرك بقوة الدفع الذاتي، وكل من لا يملك قراره ومصيره، فهو ميت، وكل من لا يستطيع الاعتراض أو الجهر برأيه فهو ميت، وكل من يجري وراء الأموات فهو منهم.
زيارة في العيد
رغب الطفل في زيارة قبر والده، فمنعه حارس المقبرة لصغر سنه ولأن اليوم عطلة، ولكنه عاد في الليل، وانتهز دخول رجل فدخل وراءه. 
اختفى الرجل، ولكنه بعد بحث وجده، "كان يحمل مسحاة كبيرة على كتفه اليمنى، وعلى كتفه اليسرى علّق خرقة صغيرة. كان عاري الصدر، لا يستره إلا وزار متقطع". 
تبع الطفل الرجل، الذي أخذ يحفر الأرض، ولم يلتفت للأصوات التي أحدثها الطفل، ولم يأبه بتهديده أن يبلغ الشرطة، "كان منهمكًا في عمله، يضرب الأرض بتلك المسحاة. لم يبق من جسده إلا هيكل عظمي يكتسي بلحم خفيف، وكان ملطخًا بالطين ومبللًا بالماء.. جلست أرقبه إلى أن فرغ من حفر مجموعة كبيرة من الحفر. تركها هناك دون غطاء فاغرة أفواهها للسماء"، سأله الطفل عن قبر أبيه، فلم يجبه، فتركه يحفر مزيدًا من الحفر.
دخول الرجل المريب، واختفائه، ثم سلوكه الغريب، وهيكله العظمي، تشير إلى أنه شبح، ولكن، ما عمله؟ ولم يحفر في الليل وفي النهار متسع؟ ألا يدل ذلك على أن قوى أو سلطات تعمل على دفننا أحياء، أو تسعى لقتلنا ودفننا والتخلص منها، فلا يعمل في الليل إلا مجرم ومتأمر؟ إن معظم ما يتم في الواقع هو دفع بنا إلى هاوية الموت، ولكن لا داعي للقلق، فهناك قبور جاهزة تنتظرنا على أحر من الجمر!!
وبعد، فإن "تمثال الضحك"، كتاب نزل في 49، يناير، 2020، يتكون من 67 صفحة" مجموعة قصصية، اشتغلت على شخوص الهامش، الذين يعيشون على أطراف الحياة، لا صوت لهم، منسيون، يعانون بصمت، وينسحبون من الحياة دون أثر. 
وعن المجموعة يقول محمود الرحبي: "تظل مجموعة "تمثال الضحك" لبدر الشيدي مشدودة أكثر إلى المواضيع وتنوعها، من انشدادها إلى اكتشاف طرائق وتقنيات جديدة. ولكن هذا البحث في الأفكار الغريبة يمكن أن يشكل هاجسًا في حد ذاته".