الحرية .. السياسة ... أية علاقة؟

هل ما يبدو سياسة هو سياسة بالفعل أم يكتفي باغتصاب الشبهة معها؟
مفهوم السياسة انتقل نحو الإقتصاد "نمودج الدولة الإنمائية"
من بين أولى ثمار سوء فهم الحرية كان التنازل عنها لصالح السيادة

لسنا في حاجة لكبير العناء لنعي حاجتنا للسياسة ليس فقط لكونها اضطرارا لحياة المجتمعات الحديثة بل لأننا عاجزون على حل مشاكلنا خارجها، أي نحن مشروطون بها شاء من شاء وأبى من أبى، لا يبدو غريبا بالمرة إجراء الحوارات السياسية في كل فضاء من فضاءات العامة بل وحتى الخاصة منها، سواء كان البيت، المقهى، الطكسي، المدرسة، الجامعة، السجن ....إلخ. بما أن الجميع شاهد على ما يجري في المسارح السياسي، فلا عجب أن الكل بلغة الكل يحاول لملمة شتات السياسة، ذلك الحل الذي لم تجهر به قيادة ما. أمل رمزي يحيل على إرث سياسي مشترك، يحيل ذلك بالكاد على الوصفة السحرية التي تسمح بممارسة السياسة بشكل صحي، بعيدا عن براتين القمع أو الترفيه في سؤال عريض يطرح بشكل ظاهرتي في كل مرة: "إلى أي محدد حقا يعزى وجود السياسة؟"، وهل ما يبدو سياسة هو سياسة بالفعل أم يكتفي باغتصاب الشبهة معها؟
تتخذ السياسة أكثر من شكل، تخلفت فيه عند  كل لبوس عن سابقيه، فتارة تكون فنا للحكم تيمنا بالتقليد الأرسطي أي حكم المدينة polic ، وتارة أخرى تنزوي تحت لواء الأنشطة الجمعية المنفصلة عن الإهتمامات الفردية، كما عزز ذلك الطرح الأفلاطوني حين أقصى النساء والعبيد والأطفال من السياسة مكتفيا بالحكيم فقط، بينما في كثير من الأحيان تختص بفك النزاعات وفق التراضي الذي يحكم به القانون "نمودج الدولة الوضعية". 

الحزب الوحيد صار عوض الملك الوحيد، فالشعب تعدد عرقي وجنسي بل وسياسي، وليس ذاتا متماثلة ذلك ما يبرر ضياع أكثر من مجمتع بعد تجربة الثورة، تلك الردة الفعلية التي أقصتها محاولة النسخ الجمعية لنمودج جديد

في الآونة الأخيرة انتقل مفهوم السياسة نحو الإقتصاد "نمودج الدولة الإنمائية"، بين هذا وذاك توضح بجلي العبارات معظم الإرتباطأت التي تصك السياسة كطابع إنساني محض، أليس الإنسان حيوانا سياسيا! بالتالي ليس غريبا أن يمتزج مع أكثر من انشغال مجتمعي، غير أن السياسة لدى حنة آرندت اتخدت منحى مغايرا للمألوف إذ تبرر وجود السياسة بالحرية، فنحن نبحث عن الحرية / الذات لذلك نحن سياسيون، طموح يشد أوزار الإنسانية نحو التعدد والإختلاف لا التطابق أو التماثل "نمودج الدولة الشمولية"، لكن هذا الطرح غاب لوقت طويل لسببين جوهريين كان أولهما هو لحظة اختفاء السياسة من الفلسفة بعد موت سقراط من خلال التقليد الأفلاطوني الذي كاد أن يقصي السياسة من الفلسفة من خلال إدراجها في علاقة جادة مع الموت: "أن نتفلسف يعني أن نتعلم كيف نموت"، فصار الخلود هو الشغل الشاغل في حقل التفكير، سؤال ما البعديات وتأملات الميتافيزيقا حلما بالمدينة الفاضلة أو مدينة الله مع طوما الأكويني جعل ممارسة السياسة ضربا من الأحكام القيمية الفضفاضة سياسيا "نمودج الدولة المثال".
أما اللحظة الثانية فكانت في العصر الحديث حين تركت الأحداث والحراكات السياسية مكانها شاغرا للتاريخ دونما سواه، حين صارت الأحداث والإحتجاجات السياسة يبتلعها الزمن في اختزالها كمجرد ذكرى جمعية، أو محاولة فاشلة لقلب النظام العام يختتم بنصر عادل، تؤوول على إثر ذلك ردات الفعل السياسية من فعل ذي ختم إنساني إلى مجرد حدث عادي جدا يصلح للإحتفال أو الرثاء، بغض النظر عن الحطب الفكري الذي أشعل فتيله في لحظة صمت. وفقا لهذا التصور تقودنا حنة آرندت نحو التشوه الذي أصاب السياسة، فتقول: "إن معنى السياسة هو الحرية ".
الحرية لا تتقيد بمعطى واحد فقط، بقدر ما تنفتح على جملة من الحتميات التي أفرزتها المجتمعات المعاصرة، فبعد أن كانت الحرية رهينة بجدلية الحرب والسلم، أي خاصة بالملك وبحظوته، صارت فيما بعد القدرة المطلقة للسيطرة على الذات تحت لواء التشريعات والقوانين المعمول بها في كل بلد على حدة، فما هو مشرعن في الغرب في كثير من الأحيان لا يجد أي تبرير له في الشرق وهكذا دواليك، مما يجعل المكان الطبيعي للحرية هو السياسة في إمكانية لقوننة المختلف عنه بالأمس، لجعله مبررا وصالحا للنهج  اليوم، غير أن التشوه الذي أثر على الحرية كان هو التخلص من حرية الإختيار السياسي لصالح تكديس رؤوس الأموال من جرد حكومات قادرة على حراسة الملكية الخاصة فقط، فغدت السياسة بالنسبة للبرجوازيين مشاركة مجتمعية ليس بغاية المنفعة أو العدالة بل تحديا للخصوم المتوسمين بملكية أكبر، وحتى بالنسبة للثوار / اللامتسرولين (لقب أطلق على الثوار الفرنسيين)، سرعان ما تجاوزو منجزات الثورة بعدما مارسوا السياسة بدافع تحسين الأوضاع الإجتماعية لا غير، متخلين بذلك عن الحرية تحت ضغط الحاجة، ما جعل منها كنزا مفقودا داخل صفوف الثوار.  

يقول روربيرس بيير: "سوف نعلك لأنا لم نجد في تاريخ البشرية، الفترة التي نؤسس فيها للحرية" فالحرية هي محرك الثورات، العنف المؤسس في حد ذاته ما هو إلا نتاج لحرب أو لحركة ثورية حتى القانون أو الإكراه المشروع حسب ماكس فييبر ما هو إلا وليد إسقاط عمودي لقيم ضابطة بعد الفوضى أو اللانظام؛ إن العلاقة بين الحرية والسياسة علاقة تأثير وتأثر / فعل وتفعيل / تفكير ثم إحداث حدث، إنتاجية لا تنقطع على تكوين فاعل / مسؤول ومفعول به تحت رحمة المحدث الأول تم مفعول لأجله تصب في مصلحته كل الثمار المجنية، فالحرية هي التي توجد السياسة بالتالي كلاهما مرآة للآخر، فالفعل السياسي نتاج تحرر من قيد ما بهذا الشكل تكون السياسة مجال تجريب حي للحرية وليس مجرد تشابك علائقي وصفي فقط، ذلك لما يقتضيه الآداء / الفعل السياسي من شجاعة وبراعة في الميدان العام الممظهر للحرية دونما سواه .
فالشجاعة تحتاج لفكر متحرر من الذات يعنى بالجماعة، وبالتفكير بدلا عن الجميع: العاطل، الجامعي، المهمش، الغني، الفقير ...إلخ، تحت تسمية المصلحة العامة التي يعنى بها الفاعل السياسي، أما بالنسبة للبراعة فهي حنكة تستوجب فصل حرية الإرادة عن الحرية السياسية، فإن كان كانت الأولى منطوقة النحن بصورة قبلية كما هو الحال بالنسبة للإجماع عن مسار ديمقراطي ما أو أسلوب اقتراع ما بمعنى أوضح إرث الجد السياسي، فالثانية نتاج بعدي للحظة التفكير في شكل فعل  action أي ما ينتج بعد التفاوض كما هو حال للتشريع والإتفاقيات، فمن دون شك فإن استبعاد الحرية عن الإرادة الجمعية هو خروج من التقليد الفلسفي اليوناني القديم الذي يعيق حركتها في كل دوران لعجلة الجسد السياسي، لحدود اعتبار حرية الإرادة مفهوما لا سياسيا يتكئ على ما كان في السابق واقعا مستبعدين في ذلك المقومات المجتمعية الجديد التي يفرضها الحاضر، بل حتى مسألة الحكم والتحكم هي ليست بذرة للإرادة الجمعية بقدر ما هي كفاءة تقف عن القوة أو الضعف؛ تلك الحرفة التي تبلورها المدرسة ويحييها القانون ويحترمها الجمع المواطن تقديسا لمفهوم الوطن الذي يحتوي تعدد التعدد. إن الصراع بين الحرية والإرادة هو بالكاد ذلك الصراع الداخلي بين ما أريد وما أفعل بحيث لا ينفك إلا أن يختفي ذلك الخصام  لحظة الحرية أي الفعل  .
من بين أولى ثمار سوء فهم الحرية كان التنازل عنها لصالح السيادة من دون هذا أو ذاك، تلك الإستجابة لضغط الجماعة أوردت الإرادة العامة كقرص يذوب كل أنا في حدق الشعب المتفق على اختيار وحيد لا يقبل الإختلاف حوله، لدرجة صارت فيها المجتمعات السياسية تجميع ذرات atomes  des  حسب تعبير كارل روزنكراتس، إن الضغط الذي تقوم به آلة النحن / إننا هو تعبير على شلة سياسة اكتسحت المسرح السياسي ليس إلا، في سبيل تجديد تاريخ التوارث حفاظا على الوضع السائد، لعل العلاقة المقامة بين الشعب والسيادة تحت عنوان "السيادة الشعبية" تعبير عن محاولة ملء الفراغ الذي تركته السيادة المطلقة للملوك في القرون الوسطى ليس إلا، حيث صار الحزب الوحيد عوض الملك الوحيد، فالشعب تعدد عرقي وجنسي بل وسياسي، وليس ذاتا متماثلة ذلك ما يبرر ضياع أكثر من مجمتع بعد تجربة الثورة، تلك الردة الفعلية التي أقصتها محاولة النسخ الجمعية لنمودج جديد .